
ليس لِبوكوفسكي من يتذكّره اليوم
بدا الشاعر والكاتب الأميركي نبيَّ ثورة أدبية في العالَم العربي لا تعترف بالقيود والسلطات وعرّاباً لحداثةٍ شعرية وقصصية تذهب باللغة إلى أقصى ممكناتها العدائية. لكن سرعان ما انفضّ القرّاء العرب عنه. يتجلّى شيءٌ من ذلك في الصمت الذي يرافقُ ذكرى رحيله اليوم.
اليوم، التاسع مِن مارس/ آذار هو ذكرى رحيل الشاعر والكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي (1920 – 1994). أليس مِن الغريب أن تمرّ الذكرى مِن دون كثير ضجيج في العالم العربي، وهو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لسنوات في ثقافتنا، وبدا عرّاباً للحداثة الشعرية والقصصية. أو بالأحرى، لشكلٍ معيَّن من الحداثة قوامه الذهاب باللغة إلى أقصى ممكناتها العدائية؟
من المحيّر أن ذلك الصخب الذي رافق حضور صاحب “الحبُّ كلبٌ من الجحيم” بيننا، حين بدأت نصوصه تصل القارئ العربي، قد انطفأ لوحده كسيجارة مهملة. يحتاج الأمر إلى فحص وتمحيص كي نفهم ما جرى. هل تراه مجرّد موضة أدبية عابرة، أم أنَّ رصيده الإبداعي قد استُهلك، على الرغم من أن جزءاً لا غير من أعماله وصل إلى الضاد؟
علينا أن نعود بالذاكرة إلى عشر سنوات على الأقل. نحن أبناء الجيل المخضرَم بين الكتاب الورقي والإلكتروني. قبل عشر سنوات، كنّا لا نزال نتهجى استعمال فيسبوك. لم يكن بعدُ هذه الظاهرة الانفجارية التي تهضم كل شيء. ليس هناك اليوم شاعر، قديم أو حديث، ليس له حضور على هذا الموقع. لكن قبل عشر سنوات، كان فيسبوك يبدو انتقائياً أكثر. وفي تلك السنوات، كان بوكوفسكي، لسبب ما، في الواجهة. كان نبيَّ ثورة أدبية غامضة في العالَم العربي.
راجت اقتباساته التي تُعرّي كل شيء. روَّجَ له البعض باعتباره أفق الكتابة التي لا تعترف بالقيود والسلطات. ليذهبْ كلَّ ما حولنا إلى الجحيم؛ جحيم التعرية العنيفة… مِن الجسد إلى قواعد اللياقة الاجتماعية. راجت أيضاً نزعة الاحتفاء بالسُّكْر والعربدة في الكتابة الأدبية.
تلك الأشياء التي بقيت القصيدة – حتى في منعطف الشعر النثري – مترفّعةً عنها. حين ظهر – أو ربما جرى إظهار – بوكوفسكي، أصبح للبذاءة مشروعيّتُها كي تنتمي إلى الشعر. بل باتت ضمنه بشكل حاسم. وقِس على ذلك عالَم القصة والرواية.
ما الذي تهيّأ لصاحب “أدب رخيص” كي يكون له هذا السحر في الثقافة العربية؟ وأي يد رُفعت عنه كي نستفيق بعد فترة فلا نجد له أثراً كبيراً؟
هناك أسئلة أُخرى: هل كانَ تأثيرُ بوكوفسكي بفعل قوّةٍ ذاتية في نصوصه أم ضمن حسابات أجندات تخترق الفضاء العربي؟ هذا السؤال الأخير، يُمكن استنتاج احتمالات إجابة عنه حين نرى اسم المترجِمة ريم غنايم من بين أكثر من اندفع لنقل أعماله إلى اللسان العربي.
هل كانَ تأثيره بفعل قوّةٍ ذاتية في نصوصه أم ضمن حسابات أجندات تخترق الفضاء العربي؟
في هذه الأيام، يصعد اسم غنايم في تونس، باعتبارها مُطبّعة تشتغل على استقطاب أسماء عربية للتعامُل مع دار نشر إسرائيلية. وفي هذا الإطار نقلت إلى العبرية رواية “المشرط” للكاتب التونسي كمال الرياحي الذي يتعرّض اليوم إلى دعوات إقالة من منصبه في وزارة الثقافة التونسية بعد افتخاره بالاحتفاء الصهيوني بعمله في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
ما شأن ذلك ببوكوفسكي؟ إذا كانت غنايم مترجمتَه، فإنَّ كمال الرياحي يُمثِّل أحد أبرز مروّجيه في الثقافة العربية. لطالما جعل منه نموذجاً يُحتذَى به، وليس من العسير أن نجد مقالات كثيرة للكاتب التونسي على منابر عربية كثيرة، وهو يروّج بضاعة الشاعر العربيد، لعلّ أبرزها مقالة له بعنوان: “بوكوفسكي يُحطّم النوع الأدبي بـ”أدب رخيص”“..
كان الرياحي، أيضاً، لسان دفاع شرس عن الكاتب الأميركي. لقد كان أثرُ بوكوفسكي – الذي أشرنا إليه – في الثقافة العربية سبباً في تواتر انتقاده ومحاولة التخفيف من غلواء الانسياق خلف مقولاته. في هذا السياق، كتب الشاعر العراقي باسم المرعبي مقالاً بعنوان “تشارلز بوكوفسكي: ابتذال الشعر وابتذال السيرة” (“ضفة ثالثة”، 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2017)، وما لبثنا أن سمعنا ردّاً مدوّياً من الرياحي.
نقرأ في الردّ: “كيف يمكن أن نحسم رداءة كاتب عالمي كتب عشرات المصنَّفات في الشعر والسرد في 700 كلمة عربية، ولا نتورّع عن ضربه بالمطوى في وجهه، أو طعنه طعنات قاتلة ونمضي كأنَّ لا شيء حدث، أو كأننا طهّرنا منه العالم وجزمنا بعدم أحقيته في الحياة؟ ما هي معاييرنا النقدية التي احتكمنا إليها لنُجهز على هؤلاء الكتّاب؟ ما هي ترسانتنا النقدية والمعرفية في تلك الأجناس التي كتب فيها هؤلاء الكتاب لنُصدر آراءنا الجازمة في حقّهم؟ ما الذي قرأناه فعلاً لهؤلاء الكتّاب لنُعلّق لهم المشانق؟ ما الدافع لاغتيال كاتب كبير؟ وهل دور الناقد اغتيال الكتّاب أم البحث عمّا خفي عن المتلقي الذي انحرف بالصورة الحقيقية للمبدع؟”.
بهذه النبرة المتوتّرة، كان أنصار بوكوفسكي يهبّون للدفاع عنه. ومقابل مثل ذلك الصخب، يُثار سؤال اليوم: هل يمكن القول بأنَّ صمت ذكرى رحيل بوكوفسكي، هذا العام، له علاقة بانشغال الرياحي وأصدقائه في الردّ على الاتهامات بالتطبيع؟
بوكوفسكي هو ضحيّةُ ذهنيةٍ مِن التفاهة تسكن الثقافة العربية وهي المسؤولة عن مسخه
لنُحاول تقديم تفسير أكثر جديةً… لقد بدأ انفضاض الناس عن بوكوفسكي منذ سنوات. لم تعُد الكتابة البذيئة أو الإباحية جرأةً في حدّ ذاتها. ثمّة أيضاَ شعور بإفلاس كاتب، له حقّاً مواطن قوّة ولكن مدوَّنته تجمع بين الجيّد والرديء. وهذا الموقف الذي وصلته الثقافة العربية من بوكوفسكي خلال العقد الماضي فقط، هو ذات الموقف الذي وصلته الثقافات في الغرب منذ ثلاثة عقود على الأقل. ليس بوكوفسكي سوى ظاهرة يُنتجها عالم الأدب، ظاهرة تكمن أهميتها في كونها فردية، ولا يمكن أن تتحوّل إلى تيار أدبيّ أساسي.
ربما علينا أيضاً أن ننتبه إلى إشكاليات أعمق في الثقافة العربية. فبوكوفسكي العربي هو بوكوفسكي كما ارتسم في وعي مُستقدميه من العرب. ليس الرجُل داعيةً للعربدة فحسب، شِعره تصويرٌ واقعيٌّ جارح لمجتمعات تحتية في مدن أميركا. لها مقابلاتها عربياً بالتأكيد، ولكنها ليست بنفس المفردات.
جرى استعارة بوكوفسكي – والترويج له – كما هو؛ ذلك العالَم الغارق في الخمور والحبوب موجودٌ عربياً لكن ليس على الطريقة الأميركية. ذلك الحسُّ في دمج الصورة الشعرية بالبذاءة له سياق احتجاجيٌّ ضد الرحى الرأسمالية في الغرب، لم يكن هناك داع لاستدعائها بذات الشكل وذات الفجاجة عربياً، فما بالك بتحويلها إلى نموذج أعلى للكتابة.
بوكوفسكي هو ضحيّةُ ذهنيةٍ مِن التفاهة تسكن الثقافة العربية. هذه التفاهة هي المسؤولة عن بوكوفسكي الممسوخ هذا. لا يُمكن أن نستفيد ثقافياً من مسخ.
هكذا، حين نتساءل لماذا ينفضّ الشعراء من حوله هذه السنوات بالذات، علينا أن نُحمِّل المسؤولية لمن مسخوه. لمن أصرّوا على أنه نموذج “أدب رفيع” أصرَّ هو أن يظلَّ “أدباً رخيصاً”.
صحيح أن هؤلاء “الماسِخين” أنتجوا حولهم شبكة من العارفين ببوكوفسكي، ولعلَّ الكثير مِن متابعي الأدب مِن جيلنا قد تأثّر به بشكل من الأشكال. تضخَّمَ بوكوفسكي في الثقافة العربية مثل ورم. كل أولئك الذين نفخوا فيه تعبوا من النفخ. وكل أولئك الذين سارعوا للتقرّب من عوالمه سرعان ما ذهبوا في سبل أُخرى.
أين ذهب هؤلاء؟ لعلّهم أصبحوا أكثر نضجاً.