ماكرون في الإليزيه ثانيةً: كذبت الاستطلاعات ولو صدقت
بعد تبيُّن دقّة التوقعات التي طرحتها مؤسّسات سبر الآراء في الدورَين الأول والثاني من الرئاسية الفرنسية، هل ينبغي القول بأنّ استطلاعات الرأي باتت تقول الحقيقة بشكل مسبق؟ بالتأكيد لا، فمفاجآت كثيرة يمكن أن تخفيها الصناديق من حين إلى آخر.

قبل يومين من إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً لولاية ثانية في فرنسا، كانت قناة “فرانس أنفو” الإخبارية الحكومية قد نشرت آخر سبر آراء حول نوايا التصويت. وفيما كانت النِّسب متقاربةً طوال أيام الأسبوع (معظمها تعطي ماكرون 52% مقابل 48% لمارين لوبان)، فإن اليوم الأخير قدّم رقم 57% لصالح ماكرون. بدا لمن سيعرف النتيجة يوم الأحد (58%) أن الاستطلاعات قد صحّحت أرقامها في آخر لحظة.
وكما في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية التي جرت قبل أسبوعين، لم يكُن كثيرون – حين بدأت عمليات الفرز – يتطلّعون فقط إلى معرفة اسمَي المرشّحَين اللذين سيتنافسان على الإقامة في “قصر الإليزيه” خلال السنوات الخمس اللاحقة، بل إلى معرفة الفارق بين حقيقة الصندوق وما قدّمته مؤسّسات سبر الآراء والمنابر الإعلامية من أرقام حول نوايا التصويت. وفي كلا الحالتين، كانت النتائجُ دقيقةً جدّاً أمام استغراب الجميع.
وقتها، وضعت استطلاعات مؤسّسات سبر الآراء الكبرى (إبسوس، بي في آ، إيلابل، أوبينون واي.. ) ماكرون في مقدّمة نوايا التصويت بما يتراوح بين 25% و28%، فيما أتت مارين لوبان ثانيةً بنسبة متوقعة ما بين 22% و25%، وكلاهما حقّق فارقاً بأكثر من خمس نقاط مع المرشّح الثالث جون لوك ميلانشون (حوالي 17% من نوايا التصويت). أمّا بقية المرشّحين، فهُم دون 10%. كانت الأرقام قريبة للغاية، إلّا في نسبة التصويت لميلانشون الذي تجاوز في الصناديق الـ20%، لكن الرقم الجيّد لم يُغيّر شيئاً من النتيجة النهائية).
حين ظهرت هذه النتائج، طُرحت بعض التفسيرات؛ منها أن مشهد انتخابات 2022 يحمل الكثير من ملامح السباق الرئاسي لعام 2017، خصوصاً في تركيبة الثلاثي المراهن على الترشُّح للدور الثاني (ماكرون، لوبين، ميلانشون)، وهو ما يدعونا للنظر إلى آخر الاستطلاعات وقتها، وسنُفاجئ بأنّها قدّمت توقّعات قريبة ممّا أفرزته الصناديق؛ حيث حلّ ماكرون في الصدارة بنسبة تصويت تناهز أيضاً 25%، وخلفَه لوبان بثلاث نقاط كما هو الحال في استطلاعات هذا العام.
لطالما اعتبر الفرنسيّون استطلاعات الرأي وسيلةً لفبركة الرأي العام وتزييف الإرادة الشعبية
يُعطي ذلك شعوراً بمصداقية سبر الآراء في فرنسا، دون أن ينفي الحذرَ الشعبي الواسع مما تقدّمه أرقام الاستطلاعات. لكن تطابُقَ نتائج الدورة الماضية من الانتخابات، وعودة نفس الوجوه للتنافس، توضّح الموقع الذي أخذته استطلاعات نوايا التصويت هذا العام.
تاريخياً، قدّمَت استطلاعاتُ الدور الأول للرئاسيات في فرنسا توقُّعات قريبة ممّا طرحته الصناديق، في ما عدا استثناءات قليلة أبرزها على الإطلاق صعودُ زعيم اليمين جان ماري لوبان (والد مارين لوبان) إلى الدور الثاني في انتخابات 2002 على حساب لوينيل جوسبين الذي قدّمته الاستطلاعات كمنافس رئيسي لجاك شيراك وقتها، وقد مثّل ذلك شرخاً في علاقة الفرنسيّين بنتائج استطلاعات الرأي التي اعتُبرت وسيلةً لفبركة الرأي العام وتزييف الإرادة الشعبية.
بعد عشرين عاماً، فكّر الكثير من المحلّلين أنّ الظروف السياسية الجديدة قد تصنع الفارق بين ما قدّمته نتائج الاستطلاعات وما ستقدّمه صناديق الاقتراع، على عكس معظم الرهانات الانتخابية السابقة. وقد طُرحت وقتها عوامل كثيرة يمكنها خلق هذا الفارق مثل كون نتائج الاستطلاعات قد تحسم قرار الكثيرين بقلب الطاولة على المرشَّح الذي تضعه نتائج السبر في الصدارة، كما أن صعود نزعة التغيّب عن الإدلاء بالصوت قد تؤثر في النتائج النهائية.
هذه الظواهر لا تبرزها نتائج الاستطلاعات، والتي تعتمد في معظمها على منهجية في علم الإحصاء تُسمّى “نظام الحصص”، والذي يتمثّل في انتقاء قرابة عشرة آلاف عيّنة من قطاعات اجتماعية وشرائح عمرية متنوّعة، من أجل التعبير عن طيف قناعات الكلّ الاجتماعي. لكن المشاركين لا يعبّرون سوى عمّا يُسألون عنه. ورغم هامش الخطأ الذي تطرحه هذه المنهجية، فإنّ النتيجة في فرنسا كانت في غاية الدقّة. هل ينبغي بعد ذلك القول بأنّ استطلاعات الرأي باتت تقول الحقيقة بشكل مسبق؟ بالتأكيد لا، فمفاجآت كثيرة يمكن أن تخفيها الصناديق من حين إلى آخر…

كاتبٌ مِن مواليد الجزائر عام 1995، يكتب القصّة القصيرة ويهتمُّ بالثقافة وبقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، يُقيم في فرنسا حيث يتابع دراسته في علوم الكمبيوتر وتقنية المعلومات.