
ما تبقّى من وجه الجَمال… هكذا روى نجيب محفوظ حكاية زهيرة
نحن أمام رواية يتراصُّ فيها الذكور من أوّلها إلى آخرها، بوصفهم أبطالاً ملحميّين يُعيدون تشكيل المجتمع وتسوية تناقضاته وصراعاته. لكنّ امرأةً طموحةً ستدخل على الخطّ، ابتداءً من الحكاية السادسة، لتُنازعهم هذه التسويات.
في الحكاية السادسة من “الحرافيش” (1977)، والتي عنونَها نجيب محفوظ (مرّت أمس ذكرى ميلاده الـ111)، بـ”شهْد الملكة”، تُطالعنا بطولةٌ متميّزة؛ بطولةٌ تُتابع سيرة “الفتَوات”، الذين يرصّعون بحِلمهم وعضلاتهم المفتولة البِناء السردي لهذه المَلحمة. إلّا أنّه يمكن وصف بطولة الحكاية السادسة، ودون أيّة مبالغة، بأنّها “محاولة انقلابية” على سائر هؤلاء الأبطال، السابقين منهم واللاحقين.
باختصار، نحن أمام بطولة زهيرة؛ وهي ابنة لأحد العمّال عند آل الناجي، أيّ أنها مُستلحَقة بهذه العائلة الأُسطورية، ولو أنّ من رحِمها ستنبعث الحكاية مجدَّداً. وستُظهر هذه المرأة من الخصال والمهارات ما يبزّ آلَ الناجي، لكنّ خصلةً منها ستسوقها إلى حتفها… الطموح القاتل.
يتقاطع في الحكاية السادسة عاملان ساهما في تطوير الرواية، ودفعاها صوب احتدام غير متوقّع. العامل الأوّل هو دخول بطلة جديدة على الخطّ، الأمر الذي أغنى الرواية فنّياً بعد أن استنزفت الحكاياتُ الخمس الأُولى الإطارَ العام للعمل، وبتنا نترقّب صدمة سردية ونتشوّق وقوعَها، لأنّ مكان الأحداث بنمطيّته وانغلاقه فرض عوالم مُستنسخةً حتى على اللّغة، التي تعجّ بمعجمٍ صوفي حُلُمي دائر على نفسه. أمّا العامل الثاني فاجتماعي، إن صحّ الوصف، نحن أمام رواية يتراصُّ فيها الذكور من أوّلها إلى آخرها، بوصفهم أبطالاً ملحميّين يُعيدون تشكيل المجتمع وتسوية تناقضاته وصراعاته، وآنَ لشخصيةٍ طَموحةٍ أن تُنازعهم هذه التسويات.
وبالمناسبة، هذا العامل هو ما لاحظه أوّلاً في أدب محفوظ (1911 – 2006) الباحثُ السوري جورج طرابيشي في كتابه، “الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية” (1973)، أي قبل صدور “الحرافيش” بأربع سنوات.
لا بدّ من مُنقِذة
بدايةً من عنوان الحكاية “شهْدُ الملكة”، يجد القارئ نفسه أمام إحالة جديدة، هي إلى كسْرِ الصلابة أقرب ممّا درجت عليه عناوين الحَكايا السابقة، والتي كانت تحمل أسماءَ أبطالها من “الفتَوات”، وهؤلاء ليس صعباً تحديد قيمة القساوة فيهم: “عاشور الناجي”، و”شمس الدين”، و”المُطارَد” (سماحة)، و”قرّة عيني”. وليست الحكاية الثالثة “الحبّ والقضبان” استثناءً، رغم ما حاولته من إقامة تجاوُرٍ بين قاسٍ (القضبان) وليّن (الحبّ). من هنا، فإنّ اختراق زهيرة للملحمة لم يأتِ حشواً، بل من باب الضرورة بعد استنفاد الحِيَل الفنّية والاجتماعية معاً. روايةٌ أُشبِعَت بالبطولة، وعائلةٌ تشظّت على وقع خَطّية السرد المتقدّم… لذا كان لا بدّ من مُنقِذة.
أثرَت زهيرة “التشجير الحكائي” – والتعبير هنا للناقد فيصل درّاج من كتابه “الرواية وتأويل التاريخ” (“المركز العربي”، 2004) – إلّا أنّها استثمرت هذا لصالِحها اجتماعياً، وذلك عندما قلبَت ميراثَ العائلة ونسبَها اللّازم من الأب وأرجعَتْه إلى نفسِها، فكلُّ أبطال الحكايا اللاحقة في “الحرافيش” هُم من نسْلها. وقد حدثت عمليةُ قلبِ الميراث هذه في الوقت المُناسب تماماً، حيثُ بدأت فيه عائلة عاشور الناجي تتفتّتُ وتضطربُ أجيالُها، بعد انقضاء زمن “العصَبية” الأُولى وخشونتها، (لو استعرنا من ابن خلدون مصطلحاته). كما تسلّل شيءٌ من الدّعة إلى الأجيال اللّاحقة حتّى تفلّتت من بين أيديهم زمام السيادة، أو “الفتوَنة”، أو قُل “الشوكة”، لو استعنّا بتوصيف تراثي مُستَلٍّ من “الآداب السلطانية”. ومن هذه الأخيرة، أي “الآداب السلطانية”، يمكنُ أن ننتقل إلى قراءة زمن وتاريخ الملحمة، وتموضع زهيرة فيه.
صراع “الفتَوَات” هو، ربما، تكثيفٌ لصراع السلطة وتقلُّباتها في التاريخ المصري المملوكي
جعَل محفوظ أبطاله ينتمون إلى تاريخ مفتوح، مُغفِلاً التصريح بحدودٍ زمنية مُعيّنة لملحمته، وإن كان جليّاً أنّ صراع “الفتَوَات” هو تكثيفٌ لصراع السلطة وتغلُّباتها وتقلُّباتها في التاريخ المصري المملوكي ربّما، لكنْ من غير المُجدي تأصيل كلّ شخصية بقرين تاريخي لها. كالقول مثلاً إنّ زَهيرة هي كليوباترا أو شجر الدّر، لِمَا تتقاطعه معهما من صفات الحِنكة والدهاء والتطلُّع إلى الثروة والسُّلطة، لا لخطأ هذه المُطابقة، بل لما فيها من مباشرة مُخِلّة بالفنّ وطُرق تشكّله في مخيال صانعه.
من جهة ثانية، مهما بلغت منفعةُ الاختراق النسوي البطولي للسرد، إلّا أنّه لا ينفصل عن جهد محفوظ الكتابي، وقدرته على تحويل كلّ ما اعترض طريقه من تاريخ المُجتمع وحاضره المليء عنفاً وتآمُراً وانشقاقاتٍ، إلى نصّ أدبي رفيع. التاريخ مليء بالتآمرات، وكُتب “الآداب السلطانية” متحفٌ مفتوح عنها، والواقع الراهن لا يفتأ يُثبت ذلك، ولكن كيف نشتقّ ممّا سبق عملاً أدبياً بعيداً عن الفجاجة أو تسفيه الوجود الإنساني؟
البطولة وعناصرها
في استقراء عناصر البطولة التي تأتّت لزهيرة، لا فكاك من العودة إلى بطل الملحمة بأسرها، عاشور الناجي، وهو ليس بطل الحكاية الأُولى وحسب، بل بطلُ حكايا “الحرافيش” العشر.
كشف عاشور عن شخصية مِراسُها القوّة الخاطفة، وناموسُها الحِلمُ والنّهى في سبيل الغاية الأسمى التي نشدها؛ العدل. ولكنّه عندما اصطدم بصخرة الواقع، لم يجد بُدّاً من الاختفاء والتلاشي، فقرّر أن يستحيلَ طيفاً ليّناً لا مرئياً، وأن يستغني عن قساوة الحضور.
يُفسّرُ الطبيب يحيى الرخّاوي، وهو أحد المشرفين على علاج محفوظ بعد محاولة اغتياله طعناً، وصاحب كتاب “في شرف صُحبة نجيب محفوظ”، هذه النزوعاتِ السيكولوجية في الغيبة، بخوف الإنسان الأوّل من الموت جوعاً. ومن المُصادفات ربّما أنّ أحد الأفلام السينمائية المأخوذ عن الحكاية التاسعة من “الحرافيش” كان عنوانه “الجوع” (إخراج علي بدرخان، 1986). وقد شغل العدل، أو الحُلم العاشوري، كلَّ أبطال الملحمة، ولم تكن زهيرة استثناءً، فأي الأدوات توسّلت لتحقيقه؟
يُرسّم عنوان الحكاية السادسة مخيالاً جنسياً مُستلهماً ممّا يجب أن تكون عليه المرأة، ويحضرُ “الشهد” كاستعارة مُخاتِلة بين موقع المرأة في المجتمع، وبين الأدوات التي توسّلتها بطلةٌ كزهيرة في الترقّي الاجتماعي، من القَعر المُفقَر وصولاً إلى أن تصبح قاب قوسين من كونها “الملكة”. وهي بهذه الأدوات تتحرّكُ وفقاً لشروط “الحريم السياسي” نفسها التي تحدّثت عنها فاطمة المرنيسي؛ إذ تهندسُ سياساتُ النوع الاجتماعي مكانةَ النساء انطلاقاً من وضعيّتهنّ الجنسية، فيُتعامَل معهنّ بوصفهنّ كائناتٍ غامضة، حسب المرنيسي.
شغل العدل، أو الحُلم العاشوري، كلَّ أبطال ملحمة “الحرافيش”، ولم تكن زهيرة استثناءً
ولمّا كان الغموض سمةً أساسيّة في “الحرافيش” من جُدران التكيّة الصمّاء، والدراويش المُتصوّفة لا يُعلَم عنهم أأحياءٌ هم أم أموات، إلى خيوط الظلّ والنور لزمنٍ غُفلٍ يحتجب خلف غلالة من دُخان البخور والكيف، وليس انتهاءً بأشعار حافظ الشيرازي الفارسية التي أضفت سحراً لا كأيّ سحر، فإنّ شخصية زهيرة نتاجٌ من هذا المزيج السحري.
يبقى الواجب ذكرُه فوق ما سبق، أو ما يهمّنا بالفعل، هي المصائر التي اقتِيدت إليها نساءٌ كثيرات في هذه الملحمة، حيثُ الخفاء أبديٌّ وحقيقيٌّ ولا رجعة عنه، لا خلف بخور تُغري خيوطُه البيضاء المتقطّعة بمخيالات وروائح نفّاذة، بل خلف خفاءٍ كتيم تحت التراب، تقود إليه رحلةٌ قصيرة مقدارُها ضربةُ “نبّوت” تهشمُ الجمجمة، أو طعنة خنجر تمزّق الأحشاء من أخٍ “غيور”، أو زوجٍ “يعشق” ضحيّته حتى الموت.
بالعودة إلى الطموح، وهو صفة زهيرة دوناً عن سائر نساء الملحمة، نجد أنّه قد تسامى بصاحبته حتى حَكَم عليها بالقتل، إذ لم يعُد من المُمكن ترجمتُه إلى حياة أو نجاة إلّا بالتخلّي عنه. هذا ما رفضته زهيرة طبعاً، متماهيةً مع الإشراقات التي هتفَت لها من عالَم الغيب، عالَم الجدّ الأعظم صاحب الكرامة، عاشور الناجي، “فَسُمِعُ في الحارة هل هي فتوة؟”.
في كتابه، “معجم شخصيّات نجيب محفوظ”، (الشروق، 2015)، أورد الباحث مصطفى بيومي، بأنّ زهيرة وُصِفت على نحوٍ ما بأنَّها فتوة حقّاً، “إنّما بأسلحة مغايرة لما يملكُه الفتَوات الرجال، الهاجس المُسيطِر عليها أن تتميّز وتختلف عن العاديّين من الناس، وأن يُسجِّل لها التاريخ سطوراً تمنحُها قدْراً من الخلود… ولكنَّ القتل الوحشي هو الخاتمة المأساوية للحياة الثريّة المليئة بالحيويّة، ‘لم يبقَ من وجه الجمال والبهاء إلّا عظامٌ محطَّمة غارقة في بركة من الدم'”.

كاتب صحافي من مواليد سورية عام 1992، مقيم في لبنان. يعمل محرِّراً في القسم الثقافي لصحيفة “العربي الجديد”، ويهتمّ بمجالَي النقد الأدبي والتاريخ وما ينتج عنهما من تقاطعات. بالإضافة إلى عمله في الصحافة الثقافية، يحرص أيضاً على كتابة القصة القصيرة.