متى تصدر النسخة العربية من “لعبة الحبّار”؟
مشهد من "لعبة الحبار"

متى تصدر النسخة العربية من “لعبة الحبّار”؟

لماذا توجد نسخة عربية من "أصحاب ولا أعز" دون "لعبة الحبّار" أو غيره من الأعمال الناجحة؟ التفكير في إجابات حول هذا الاختيار يضعنا في مواجهة واقع الإنتاج البصري في العالم العربي.

بدءاً من يوم صدوره في 17 يناير2022 على منصّة نتفليكس، تحوّل فيلم “أصحاب ولا أعز” إلى حدث فرض نفسه على الساحة العربية قرابة شهر، من جهة انتقادِ الصورة التي بثّها عن المجتمع العربي وعدم مطابقتها للواقع، أو من خلال نقاش الثيمات التي تطرّق إليها العمل، وهي في معظمها قضايا إشكاليةٌ ومُحرجة (المثلية، برود العلاقات الزوجية، تقبّل الأسرة للجنس ما قبل الزواج…)، إضافة إلى عناصر أخرى أبرزها على الإطلاق نزع منى زكي لكيلوتها في بداية الفيلم.

“أصحاب ولا أعز” ليس إلا نُسخة عربية عن أصل إيطالي بعنوان “غرباء بامتياز” صدر في 2016، وتبعته نسخ كثيرة بلغات متعدّدة. هل يفسّر نجاح الفيلم الإيطالي وحده مروره إلى ثقافات أخرى حتى وصل إلى العربية؟ لا يبدو ذلك صحيحاً، فكثيرة هي الأعمال الفنية التي حقّقت نجاحات كبرى، ولن نعود بالذاكرة بعيداً كي نستحضر نجاحاً جماهيرياً موسّعاً حقّقته سلسلة “لعبة الحبّار” الكورية، فقد نجحت مع إطلاقها في نهاية 2021 أن تتصدّر قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة عبر نتفليكس منذ تأسيسها. فهل توجد نية بإنتاج نسخة عربية؟ أبدًا.

لا يبدو السؤال جدياً لكنه يفتح على إشكالية حقيقية. لماذا توجد نسخة عربية من “أصحاب ولا أعز” دون “لعبة الحبّار” أو غيره من الأعمال الناجحة؟ التفكير في إجابات حول هذا الاختيار يضعنا في مواجهة واقع الإنتاج البصري في العالم العربي.

لم يكن “أصحاب ولا أعز” يحتاج إلى غير أستوديو، حيث لا تتحرّك المشاهد في غير بضعة فضاءات تحتل فيها طاولة العشاء الجزء الأكبر. ماذا لو تخيّلنا إعادة إنتاج “لعبة الحبّار”؟ لننظر إلى تلك الفضاءات التي دارت فيها الألعاب القاتلة والتي تبلغ تكلفة إنتاج واحدة منها حجم ميزانية جميع مشاهد فيلم “أصحاب ولا أعز”، ناهيك على الاشتغال على الأزياء وحركة الممثلين والمشاهد الخارجية. إذن هناك سبب إنتاجي يعمل كمصفاة يجعل من بعض الأعمال قابلة لإعادة الإنتاج بمفردات عربية وأخرى تظلّ على هامش الاهتمام رغم نجاحاتها الجماهيرية الكاسحة.

لكن السبب الإنتاجي يمكنه أن يفسّر الإحجام عن بعض الأعمال، دون أن يفسّر التحمّس لأخرى. فما الذي يُغري في “أصحاب ولا أعز”؟ إن تشكيلة الثيمات التي أشرنا إليها أعلاه تمثّل عامل جذب قويّ. وضع ثيمات حارقة مثل المثلية والجنس في فترة المراهقة والخيانة الزوجية مع صديق فوق طاولة واحد، وفي إطار فيلمٍ واحدٍ، هو عملية تكثيف قوية جديرة بإثارة نقاشات كتلك التي دارت بالفعل في مواقع التواصل الاجتماعي من المحيط إلى الخليج.

لا ننسى أن نتفليكس في مرحلة تمدّد داخل العالم العربي. يحتاج ذلك إلى دعاية، هي ليست بالضرورة تلك الدعاية الرسمية التي تقوم على المرور بوسائل الإعلام، بل هي دعاية تقول على شدّ الانتباه بالقوة. من لم يسمع بنتفليكس إثر تسونامي التعليقات على فيلم “أصحاب ولا أعز”؟ من لم يضرب أي موضوع من تلك الموضوعات المطروحة للنقاش في الفيلم وتراً من أوتار نفسه؟ من لا يثير فضوله أن يشاهد اللقطة التي يدور حولها النقاش حين تنزع منى زكي كيلوتها، فيحكم عليها بنفسه؟

ككل شركة ربحية تبحث نتفليكس على انتشار علامتها، فتلك هي الدرجة الأولى التي لا بدّ أن توضع في سلّم صناعة المتسهلك. ولا يمكن فعل ذلك من خلال أعمالٍ لا تصنع الضجّات أو لا تلامس الغرائز الدفينة وتدغدغها. فيلم تنتجه نتفليكس لا يختلف من هذا المنظور في شيء عن قارورة مشروبات غازية تنتجها كوكا كولا.

انطلاقاً من المديونية، ليس أسهل من إعادة تركيب الحكاية بمفردات عربية

لا يتوفّر الكثير من هذه العناصر المثيرة في “لعبة الحبّار”. العمل في منطوقه الأوضح يقدّم ديستوبيا عن العالم الرأسمالي الحديث. من خلال سلسلة ألعاب طفولية الطابع يظهر الوجه الكريه للمنظومة العالمية؛ كما تتم تعرية العلاقات الدفينة بين المنطق المادي الذي يحكم العالم والعوالم النفسية البشرية التي ترتبط بها؛ التمسّك بالحياة، الرغبة في الرفاهية أو في تحاشي الألم وغيرها…

لا شكّ أن الحكاية المقترحة في “لعبة الحبّار” أقرب لإعادة الصياغة عربياً، فهي تنطلق من مفهوم المديونية لتجعل من قبول الشخصية الرئيسية بالحلول المستحيلة ممكناً، ومن ثمّ تتدفّق السلسلة باعتماد تقنيات التشويق والتشبيك مع حكايات كثيرة تضيء مختلف الشخصيات بما هي اختزال للمجتمع برمّته.

انطلاقاً من المديونية، ليس أسهل من إعادة تركيب الحكاية بمفردات عربية، فليست المديونية ظاهرة في المجتمع الكوري الجنوبي وحده، إنها واقع عالمي، وهي تأخذ في مجتمعاتنا ودولنا العربية أبعاداً أعمق، كما أن التنازلات التي تقدم عليها الشخصيات مما يُفترض أن يُدرس بجدّية في الأعمال الأدبية والسينمائية العربية وهو ما يتوفّر بشكل كاف، إذ يحضر الإنسان المُدان-المهان بشكل عابر في المدونات الكتابية والبصرية العربية في حين أن سلسلة مثل “لعبة الحبّار” تنبّهنا إلى أنه بات نموذجاً عابراً للقارات.

إذن، تقف وراء السلسلة الأكثر متابعة عالمياً رؤية فكرية-اقتصادية قد تكون محرّكة لشريحة من المتابعين في العالم العربي لكنها لن تتحوّل إلى ظاهرة شاملة تدفع الجميع للنظر في اتجاه واحد. لا تبحث نتفليكس بالتأكيد على ترسيخ الوعي النقدي للجمهور العربي، أو تثقيفه في ما يتعلّق بكيفية سير المنظومة النيوليبرالية. إنها تبحث عن فرض نفسها في سوق المشاهدة العربي، وها قد نجحت عبر “أصحاب ولا أعز”، ليس بالضرورة لأي سبب فنّي بل بسبب نجاح الدعاية الموازية، والتي جعلت من نتفليكس على كل لسان، ولولا رواج قنوات القرصنة العربية لتحوّلت إلى حاجة لا بدّ من تلبيتها، ما يتحوّل في الأخير إلى مشتركين أي إلى آلات ضخّ مالي في سوق جديدة.

يلتقي كل من “أصحاب ولا أعزّ” و”لعبة الحبّار” في نقطة تشابه بارزة، كلاهما يقدّم أطروحاته من خلال استعارة مفهوم اللعبة وتذويبها في حكايات الناس العاديين. كلاهما لعبة تؤدّي إلى الكشف عن قضايا أوسع من مآلات اللعبة. في كليهما لا يعنينا من فاز ومن خسر، إذ لا يبقى سوى وقع الحكايات والشخصيات في نفوسنا، وامتداد كل ذلك في حياتنا الشخصية. نتفليكس أيضاً لعبةٌ، لعبة جديدة في عالمنا العربي تؤشّر على امتداد المنظومة الرأسمالية في وجهها الفنّي إلى منطقتنا. لا أحد استشارنا هل نودّ المشاركة في اللعبة أم لا، لكننا بتنا جميعاً متورّطين فيها.

باحثة في العلوم الاقتصادية، مهتمة بفهم الاستراتيجيات الشعبية في مواجهة النموذج الرأسمالي. تعمل حالياً في مجال السياحة.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة