محسن بشير: بلاد تحت خطّ الفقر المائي والثقافي
ينطلق مشروع الناشط الإيكولوجي التونسي مِن مفارقة أنَّ شمال تونس هو أغنى مناطق البلاد رصيداً مائياً، لكنَّ سكّانه يُعانون مِن العطش. مِن هنا يُبلور أسئلةً يأمل في أنْ تُغيّر النظرة إلى مسألة المياه في بلاده.
مع قضية “سدّ النهضة” بين مصر وأثيوبيا، انفتح الأفق على كابوس آخر في العالم العربي اسمُه الماء. ليست مصر استثناء عربياً في عدم امتلاك مقدّراتها المائية وإمكانية ابتزازها بهذا الملف، فذلك حال معظم البلاد الأُخرى. وليست مصر وحدها معرّضةً للعطش، بل إنَّ معظم البلدان العربية تعيشه واقعاً… لكنه واقع مسكوت عنه.
قضية بهذا الحجم، وبهذه الأولوية، لا نجد لها أثراً كبيراً في النقاشات الثقافية في أي بلد عربي؛ فلا ينشغل بها السياسيّون إلّا على هامش قضايا أُخرى، ولا يقدّرها الصحافيّون حقّ قدرها، أمّا المبدعون مِن الأدب إلى السينما، فقلّما ينتبهون إلى هذا النوع من الإشكاليات الكُبرى في مجتمعاتنا. النتيجة أن قضايا بهذا الحجم لا تزال متروكةً بين أيدي موظّفين، وتقف المبادرات المدنية عند تقديم مقترحات خجولة.
ضمن برنامج دعم المبادرات الشبابية الذي تنظّمه جمعية “الشارع فن” (مقرّها تونس العاصمة)، نقف على مشروع بعنوان “عطش الشمال”، يتعلّق بمعضلة الماء. مشروع اقترحه محسن بشير (1994)، وهو مهندس بيولوجي وناشط مدني ومصوّر فوتوغرافي مهتمّ بالقضايا البيئية.
تنطلق فكرة المشروع من مفارقة أنَّ الشمال التونسي هو أغنى مناطق البلاد رصيداً مائياً (أنهار، أمطار، سدود…)، لكن ساكني المنطقة يعانون من العطش. مِن هنا انبثقت أسئلة يودُّ الشاب التونسي أن يجعل منها طاقة لتغيير النظرة الباهتة تجاه مسألة المياه في تونس.
أسئلة يودّ الشاب التونسي أن يجعل منها طاقة لتغيير السلبية تجاه مسألة المياه في تونس
متحدّثاً إلى “رحبة”، يقول بشير: “للوهلة الأولى، تبدو أزمة المياه في تونس حديثة، حين صعدت في السنوات الأخيرة احتجاجات في بعض المناطق على انقطاع الماء الصالح للشرب، وذهاب البعض إلى تصعيدات وضغط على المسؤولين بقطع الطرقات والاعتصامات. لكنّها في الحقيقة أزمة عمرها أكثر مِن ثلاثة عقود. يمكن تأريخها مع بداية إنشاء السدود في تونس ضمن مقاربة واسعة للتنمية. ومِن المعلوم أن هذه السياسات لم تُحقّق أهدافَها بشكل كبير“.
وحول تبلورت فكرة المشروع في ذهنه، يشير الناشط التونسي إلى أن خلفيّته الإيكولوجية قد قادته إلى التفكير في إشكاليات توزيع الماء في تونس، لكن الشرارة الأساسية كانت في سنوات دراسته في الولايات المتّحدة الأميركية حيث لاحظ أنّه، ورغم وفرة المياه، توجد منهجيات متكاملة لعدم الوقوع في أي نقص. يقول: “تساءلت كيف يحضر موضوع المياه في هذه المناطق ذات الوفرة العالية، في حين أن تونس تعاني بشكل واضح من خلل في المياه من دون أن نجد انشغالاً مدنياً وفكرياً بها؟“.
يشير محدّثُنا إلى أنَّ خلفيته البيولوجية كانت أيضاً معطىً آخر قاده إلى مشروعه؛ حيث تساءل: لماذا بات ماء الحنفية غير قابل للشرب في تونس؟ فأخذ يحلّل العيّنات ويُقارن بينها ويربطها بالسياسات التنموية وبمقدّرات الدولة وكيفية توظيفها. ومن هنا بدأ المشروع يفتح على قضايا أوسع.
يقول بشير: “منطقتنا في حالة فقر مائي، والأدهى من ذلك أنّ الأرقام في هبوط متواصل“، ويضيف: “نتعامل في تونس مع الموضوع وكأنه ملف هامشي، في حين أنَّ مشكلة المياه ليست هيّنة بالمرّة… حروب أهلية يمكن أن تقع بسببها، وعطش بعض المناطق قد يتسبّب في ما يُعرف بالهجرة البيئية، أي أنَّ المشكل الإيكولوجي يُصبح مشكلاً ديمغرافياً“.
يُفسّر بشير نقص الوعي بالقضايا المائية، فيقول: “قبل الفقر المائي، علينا أن ننتبه إلى الفقر في الثقافة البيئية في مجملها. حتى أنّنا نشعر وكأننا تعوَّدنا على قلّة الماء والاخضرار في حياتنا. باتت الأتربة والأراضي الجرداء والرمل المشهد الطاغي في مدننا وبلداتنا وبتنا نقبل بذلك. لا ننتبه إلى أنَّ الماء ليس هبة الطبيعة وحدها. إنّه هبة المعرفة أيضاً. وللأسف فإن الرابط بن الجغرافيا والثقافة مقطوع لدينا“.
يرى الباحث التونسي أنَّ بلاده، ومثل بقية البلدان العربية، لا تزال في “مرحلة تكوُّن وعي حول الماء”، وعيٌ يصفه بأنّه ما زال غير منظَّم. ويشرح ذلك بالقول: “يوجد وعي بوجود المشكل، ولكنّه لا يُطوِّر أفكاراً وحلولاً. وبالتالي فنحن اليوم بحاجة إلى نشر وعي جديد بقضية الماء. لا بدّ مِن رفعه إلى أولوية نتحدّثُ حولها يومياً في الصحافة ومؤسّسات الدولة، كما ينبغي أن ننفتح على تجارب بلدان أُخرى ونتعرّف على خبراتها في إدارة الثروة المائية وتنميتها“.
وكأنّنا تعوّدنا على قلةّ الماء وندرة الاخضرار في مدننا وبلداتنا وبتنا نقبل بذلك
لكن بشير يؤكّد بأنَّ الأمر ليس بتلك البساطة؛ حيث توجد معيقات كثيرة، أبرزها غياب فهم واسع لأبجديات قضية المياه. يقول: “الأمر يحتاج إلى تفاعل كبير بين كلّ الأطراف: الدولة والمجتمع والخبراء والمثقَّفون. الجميع معنيّون بقضية الماء. كلُّ المجالات تتقاطع مع هذه القضية؛ الزراعة والصناعة والسياحة. الانشغال بهذا الموضوع سيقودنا إلى مراجعة الكثير من أولوياتنا“.
يرصد بشير، أيضاً، إشكالية تتعلّق بعلاقة المواطنين بالدولة من زاوية توزيع الماء، حيث يرصد انقطاع الثقة بين الطرفَين، وهو عامل آخر يُعقِّد نشر وعي حول المسألة. يقول: “صحيح أنَّ سياسات الدولة على مدى عقود تُثبت بأنها متصرّف سيّئ في المياه، لكنَّ المواطنين ينبغي أن يلعبوا أدواراً أُخرى غير تحميل الدولة مسؤولية نقص الماء وحسن توزيعه، بدءاً مِن عدم تنظيم الوعي بقضية المياه. كما أن العلاقة بين الطرفَين ضرورية ولا يمكن إيجاد بديل لها“.
إذا كانت هذه الطموحات تُمثِّل الخلفية الكبرى لمشروعه، فإنَّ الهدف المباشر الذي يسعى إليه بشير من خلال “عطش الشمال” هو توفير مادّة وثائقية ثرية من صوَر ومعطيات ومحادثات، بما يتيح إنشاء مكتبة سمعية وبصرية يمكن مراكمة عناصرها لتقدّم رؤية شاملة في قضايا المياه في تونس، مع تأكيده على ضرورة توظيف التكنولوجيا والتقنيات التفاعلية لخلق علاقة تجاوُب شعوري بين القضية والجمهور.
يلفت بشير إلى أنَّ اشتباكه بالموضوع كشف له وجود مبادرات مهمّة معظمها من متخصّصين وشباب، ولكنّها تظل بعيدة عن تقديم ثمرتها في ظل عدم تعميم الوعي بالقضية. يقول: “المسألة المائية تتعلّق بخيارات كبرى، لكنها تُناقَش بعيداً عن الرأي العام في حين أنها تُحدّد المصير المشترك لشعب بأسره“.