“محفظة نقود الفلاسفة”: من حفرة طاليس إلى بزنس الأفكار
يقترح الباحث الفرنسي هنري دومونفالييه أن ننظر للفلاسفة كأناس عاديين، ويكفي أن نفعل ذلك حتى نعيد للمال مكانته في حياتهم تلك التي تخفيها كتبهم.
صورة الفلاسفة كابية عادة، هم روحانيون أو عقلانيون قبل كل شيء، مشغلون بالأفكار والتنظيرات، وكم هي دالة تلك الحكاية عن طاليس حينما وقع في حفرة بينما كان يسير ناظراً للسماء. مثله نتخيل سقراط وأفلاطون وسبينوزا وكانط وهيغل وشوبنهاور وماركس وسارتر.
رغم هاته الصورة العامة التي تفصل هذه الأسماء عن العالم المادي، فقد كانوا مادة درس الباحث الفرنسي هنري دومونفالييه في كتابه “محفظة نقود الفلاسفة” الصادر عام عن منشورات لوباسور.
ربط الفلاسفة بالمال لا يأتي هنا من زاوية الانشغال به كموضوع تفكير، وقتها سيكون ماركس هو الوحيد المناسب للدراسة في القائمة التي اختارها المؤلف، لأن المال ببساطة ليس موضوعاً فلسفيا، حتى ماركس لم يفعل ذلك إلا عبر توليفته العجيبة بين الفلسفة والاقتصاد السياسي والتاريخ في كتاب “رأس المال”.
يقترح المؤلف أن ننظر للفلاسفة كأناس عاديين، ويكفي أن نفعل ذلك حتى نعيد للمال مكانته في حياتهم. ولكي نصل إلى هذه النقطة، محفظة نقود الفلاسفة، هناك إشارتان لطيفتان يسوقهما دومونفالييه؛ الأولى تظهر في إهداء المؤلف عمله إلى والده الذس طالما “ساعده ماديا” ولولاه لما حصل على دكتوراه الفلسفة التي جعلت منه باحثاً ومؤلفاً. وأما الإشارة الثانية، فهي حكاية يوردها في بداية كتابه يستعيد فيها حادثة وقعت خلال سنوات دراسته الجامعية حين زار فيلسوفا لم يورد اسمه، وقد شاءت الأقدار أن يبقى الفتى في مكتب الفيلسوف وحيدا بضع دقائق، وقد وقعت عيناه على مسودة رسالة كانت على الطاولة. كانت الرسالة عبارة عن تذكير موجه للناشر بعدم استلام الفيلسوف لمستحقاته من مبيعات كتاب ما.
أوحت الحادثة مشروع الكتاب الذي نحن بصدده لمونفالييه. كانت الرسالة تعني أن وراء كل كتاب في مدونة الفلسفة المزدحمة بالعناوين إمكانية وجود طلب شبيه، ناهيك عن علاقات أخرى كثيرة ممكنة في علاقة الفلاسفة بالمال؛ كسبا وإنفاقا.
خلال بحثه في علاقة الفلاسفة بالمال يكشف المؤلف بعض المفارقات، فطاليس الذي وقع في الحفرة كان ابن تاجر، بل إنه مارس التجارة بنفسه واستفاد من معارفه في الحساب والفلك. ذات الأمر ينطبق على الفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي بتشاؤمه لكنه عاش حياة الأثرياء وكان ابن رجل أعمال، لولا ذلك كان من الصعب أن يستمر في التأليف حيث أن مبيعات كتبه كانت قليلة للغاية، وحين نعلم أن معظم أعمال الفلسفة لم تكن مقروءة على الأقل أثناء حياة مؤلفيها سنفهم أن معظمهم كان يمكنه أن يهيش بمعزل عن الفلسفة.
المفارقة ستبرز أكثر فأكثر هنا، ففلاسفة القرون البعيدة كان الرخاء شرط تفلسفهم، وقد يكون هذا السبب هو الذي جعل المال ثيمة منسية في الفلسفة.
هؤلاء الذين يبدون في المخيلة الجماعية فقراء كانوا الأكثر غنى مقارنة بفلاسفة يضطرون لبيع أوقاتهم في تدريس الفلسفة كي يعيشوا؛ بدءا من هيغل وصولا إلى سارتر ضمن قائمة النماذج التي يقترحها الكتاب، ما بديل ذلك إلا وضع ماركس البائس، والعجيب أن ماركس هو من فكر بالمال، وهو الأقل جلبا له.
لكن فلاسفة ما بعد القرن العشرين لم يعودوا يكتفون بموقع الأستاذ وراتبهم، فقد فتحت الميديا ما يسميه المؤلف “بزنس الأفكار”. الفيلسوف هو اليوم ضيف البلاتوهات التلفزية، يكتب في المجلات الفكرية والسياسية وغيرها، وينتج كتابا كل عام. يعلم فيلسوف اليوم أن الصبر على تأليف كتاب مرجعي سيحتاج إلى إنفاق خمسة أعوام من عمره على الأقل، أما التقاط الطرائف الفكرية وصوغها في أسلوب سلس في قرابة مئتي صفحة فهو المطلوب من الناشر والقارئ، وهذا يمكن إنتاجه كل بضعة أشهر.
يأخذ الكتاب بعدا اقتصاديا واضحا عند بلوغ هذه النقطة حيث تتكاثر الأرقام والإحصائيات في النص. يذكر المؤلف أسماء مثل فريدريك لونوار وميشال أونفري وميشال سير وأندريه كونت سبونفيل ولوك فيري، ويشير إلى أرقام مبيعات فلكية كل عام: يتجاوز بعضهم المليون نسخة والنتيجة هو تحصيل ثروات ضخمة في الأرصدة البنكية للفلاسفة.
باحثة في العلوم الاقتصادية، مهتمة بفهم الاستراتيجيات الشعبية في مواجهة النموذج الرأسمالي. تعمل حالياً في مجال السياحة.