محمد علي: أحدُهم أفلت من النهاية التراجيدية
توفّرت في الملاكم الأميركي ما تحتاجه كلمة الحق من صلابة معنوية ومن دقة تصويب. وتوافق صعود نجمه مع حاجة بشرية للانبهار بأبطال. أفلت من فخاخ كثيرة نُصبت له، وكما يفعل في معاركه على الحلبة، يصبر حتى ينهك الخصوم ومن ثمّ ينقضّ عليهم.

أولئك الذين اختاروا السير خارج الطرق المرسومة سيجدون الكثير من العراقيل إذا ما ابتغوا بلوغ القمم. فإذا نجحوا استحقوا مكانة الأبطال، لكنّهم في هذا الموقع الجديد سيكونون عرضة للتدمير أكثر من أي وقت مضى، خاصة إذا أصرّوا أن يظلوا مضادّين للسلطة ولم يتحوّلوا إلى أحجار ترصّع بها أسوارها.
حدث ذلك مع مارادونا، لومومبا، غيفارا وكانت النهايات أحكاماً بالإعدام المعنوي أو الجسدي. سِيَرهم تُقرأ كحكايات أبطال التراجيديات الإغريقية أو الشكسبيرية التي لا تنتهي إلا بالفجائع. قلة من كان ينجو من هذه المصائر الرهيبة، وينجح في العبور من فخاخ التحطيم، مثل الملاكم الأميركي محمد علي (1942 – 2016)، فقد تحاشى اللكمات المدمّرة التي وُجّهت إليه حتى سقط خصومُه منهكين كأوراق الخريف.
1. عمليات إحمائية
ليست رياضة الملاكمة اليوم كما كانت منتصف القرن الماضي، حين فتح كاسيوس كلاي (اسم ولادة محمد علي) عينيه على العالم في مدينة لويفيل الأميركية. لم تكن هناك رياضة تزاحمها في الشعبية (حتى كرة القدم وقتها)، غير أن الميديا لم تكن تسهر – كما اليوم – على أسطرة الأبطال.
تُقابل سنوات مسيرة كلاي بلوغ الملاكمة درجة من المتابعة الجماهيرية جعل منها ظاهرة إعلامية كبرى في عقدي الستينيات والسبعينيات،ولم يكن ليتحقّق ذلك دون بطل يتجاوز إشعاعه مجال تخصّصه مثل محمد علي، فقد تحوّلت مباراياته الكبرى (سلسلة مواجهات جو فريزر، ومباريات الفصل في لقب بطل العالم ضد جو ليستون وجورج فرومان) إلى أحداث تُغطّى على مستوى العالم، لا تتجاوزها في اهتمام الناس حتى أخبار اشتعال الحروب أو الضربات المخابراتية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية. كما جلبت مواجهاته الأخرى، في معارك خارج الحلبة، اهتمام المتابعين، إذ جعل محمد علي من الملاكمة منبراً يمرّر من خلاله ما يشاء من رسائل السياسة والعقيدة والقناعات الاجتماعية.
حين انتهت مسيرته، أواخر السبعينيات، بدت الملاكمة مثل قاعة تنطفئ فيها الأضواء بالتدريج. فبعد أن حظيت بمباركة الإعلاميين والساسة، وحتى المفكرين، باعتبارها متنفّسا للعنف الذي يسكن المجتمعات، أصبحت تمثّل فرجة غير مرغوب في شعبيتها، وقد تلاعبت بها الميديا فقلّصت من كمية الضوء الذي كان موجّهاً إليها (نهاية الثمانينيات صدر قانون في أميركا يفرض عدم بث مباريات الملاكمين المحترفين إلا عبر القنوات المشفرة) حتى أصبحت على ما عليه اليوم، رياضة لا تتابعها إلا فئة قليلة، وأكثر من ذلك لم تعد تصدّر الأبطال، فلا تبلغ أسماع العالم إلا أصوات لاعبي كرة القدم والتنس أساساً، وبعض الفلتات من ألعاب أخرى. مع هذه السياسات في حق الملاكمة، كأن “المتلاعبين بالعقول” قرروا ألا تتكرر ظاهرة محمد علي.
في الفضاء العربي الإسلامي، حقّق البطل الأميركي شعبية طاغية كثيراً ما تفسّر في حالة التماهي التي خلقها اعتناقه للإسلام منتصف الستينيات، وباتت هذه الخطوة الزاوية التي تُفهم منها العدوانية التي يواجه بها في بلاده، وفي الغرب عموماً، غير أن قضية محمد علي كانت أكثر شمولاً وتركيباً. إنها جبهة واسعة في مواجهة مثالب القرن العشرين؛ أولها العنصرية التي كان يواجهها يومياً منذ طفولته، وقد وجد في الملاكمة فرصة للردّ على غطرسة الرجل الأبيض، وتسديد لكمات أخرى لمن يهادنون في القضايا المصيرية لأبناء جلدتهم.
عمل كلاي أيضاً على كشف خواء الحلم الأميركي أو الإشارة إلى احتكاره لدى فئات دون غيرها. كان ينتقد عبودية العمل الرياضي، ويحوّل الصعود إلى الحلبة نحو أهداف جديدة بشحنها بمعان أكثر نفعاً من تسلية المتفرّجين. وكان ضد الحرب، ومع القضايا النبيلة حيثما كانت.
تقريباً، كل المواقف التي اتخذها كانت ضدّ النظام المكرّس في بلاده وفي العالم. وأن ينفلت نموذج التحرّر هذا على مدى عالميّ، مغالبا إكراهات الواقع الاجتماعي والعرقي والسياسي، فهذا يعني أن تحوّلات كثيرة قد حدثت، وأن خرائط الهيمنة على العقول قد تغيّرت معالمها.
2. القفازات و”الحُقرة”
كلما سئل: ما الذي كان يمكن أن تكونه لو لم تكن ملاكماً؟ يجيب محمد علي بأنه منذ نعومة أظفاره لم يتقن شيئاً غير الملاكمة. كان يعتبر نفسه – دون حرج – تلميذاً خائباً واعتقد من البداية أن المدرسة لا تلائمه، وترك مسؤولية تعليمه للحياة وللحلبات.كأنه قرأ تنظيرات بورديو وباسيرون وإليتش حول المدرسة كجهاز لإعادة إنتاج الفروقات الاجتماعية، فعافها والتفت إلى الملاكمة ووضع فيها سرّ نفسه وحمّلها أقداره.
ولما كانت أميركا تعيش على وقع تحولات الحقوق المدنية، اعتقد الفتى أن تحقيق شيء ذي قيمة لبلاده سيغيّر من موقعه الاجتماعي فثابر على التدريب ليكون مهيّأ لبلوغ أوّل أهدافه بتمثيل أميركا في الألعاب الأولمبية وهو ما تحقق في دورة روما 1960 التي انتزع ميداليتها الذهبية، وفتحت له الأبواب – وهو في عمر الـ18- ليجعل من الملاكمة مشروع حياته.
حين عاد إلى مدينته لويفيل، دخل محمد علي إلى أحد المطاعم الراقية. رفض النادل خدمته باعتبار أن المطعم خاص بالزبائن البيض، ولم يشفع له أنه بطل أولمبي. دفعته الخيبة إلى إلقاء ميداليته في نهر أوهايو. لقد ارتطمت يومها كذبة الحقوق المدنية بالواقع، وعرف محمد علي أن الطريق أطول مما يعتقد المتحمّسون.
بدأ الفتى في تحويل الشعور بالقهر إلى طاقة عمل.صنع لنفسه أسلوباً يجمع بين قوة لكمات لاعبي الوزن الثقيل وخفة الأوزان الأدنى. وبما أن هذه الخفة كانت تميّزه عن غيره، فقد كان يعتمدها كسلاح تكتيكي ضدّ منافسيه وقد اختصرها في مقولته التي تدلّ على بلاغة نقية: “أحلّق مثل فراشة وألدغ مثل نحلة”.
اعتمد أسلوب كلاي على خطة أشبه ببناء درامي، يقوم على فسح المجال للخصم كي يصوّب نحوه لكماته، مهدراً بذلك طاقته التي سيجد صعوبة في استنهاضها في الجولات الأخيرة التي ينتظرها كلاي لينتفض ويحسم المواجهة. تحتاج هذه الخطة إلى فلسفة دفاعية قوامها خفة الانتقال على كامل مساحة الحلبة، واستغلال حبالها، وقدرة على مرواغة اللكمات بمرونة ساحرة.
كما اشتهر كلاي بضربة “دجاب” حيث يثبّت رجليه بالأرض ويرسل لكمة من بعيد دون التورط في اشتباك، فيستنزف قوى الخضم بأكثر الأثمان اقتصاداً، ومن ثم يدخل إلى مرحلة الحسم، لتبدو كل المباراة تهئية لهذه القفلة المسرحية. لقد جسّد سريعاً تلك المقولة التي تبدو غير مطابقة للملاكمة باعتبارها “فناًَ نبيلاً”. أثبت أن هذه الرياضة تُلعب بالعقل. ليست صراعات مجالدين ووحوش برية. أكثر من ذلك إنها تلعب بالروح، بأعمق ما في النفس البشرية.
في مرحلة أولى من مسيرته، كان أكثر ما يشغل محمد علي هي الانتصارات على الملاكمين البيض كأنه يحبّ أن يجعل من التغلّب عليهم استعارة عما ينبغي أن تكون عليه الأمور في الواقع الاجتماعي الأميركي. وقد بدأ كلاي في تحقيق شهرته العالمية بعد مواجهة مع بطل أوروبا، الإنكليزي هنري كوبر، في ويمبلي عام 1963. انتصر، وبدا الأمر – على سلمّ تاريخي أوسع – مثل “تصفية البيض” من المواقع الأمامية في رياضة الملاكمة.
لم يكن هذا الانتصار الرمزي يعني شيئاً كبيراً على المستوى الرياضي. كان على كلاي أن يتقدّم نحو اللقب العالمي، ولم يكن ليوقفه شيء في طريقه. وفي عمر الثانية والعشرين (فبراير 1964) أصبح أصغر بطل للعالم بعد مواجهة حامل اللقب سوني ليستون، ثم أكّد انتصاره عليه في تحدي مايو 1965. وقد اصطدم كل من تحدى كلاي في تلك الفترة بملاكم يطوّر مهاراته باستمرار ويوجّه ضربات لا ترحم.
في قمة مجده الرياضي، أعلن كلاي إسلامه وغيّر اسمه إلى محمد علي. وهو يتقدّم نحو هذا المربّع، أظهر قدرة على جلب الأضواء نحوه، وحسن إدارة اللعبة التواصلية. بات البطل الذي يُلهم الآلاف بمنجزاته الرياضية، زعيماً للمضطهدين يُشير إلى سبل التحرّر وإعادة ترتيب الأشياء وفق اعتبارات أكثر عدالة.
انفلت الملاكم، وباتت ضرباته تبلغ مدى أبعد من الحلبة. تهيّأت سكاكين كثيرة لطعنه وبدأت تحاك ضدّه المؤامرات. لكن الملاكم – وكما يفعل في معاركه على الحلبة – سيصبر حتى يُنهك الخصم ومن ثمّ ينقضّ عليه.
3. الضربة القاضية
لم تكن شروط الخدمة العسكرية متوفرة في محمد علي. قلة حصيلته الدراسية كانت سبباً كافياً في فشله في أي اختبار تفرضه العسكرية الأميركية، والتي كانت توزّع الإعفاءات على كل من يثبت أن مجال عمله ينطبق عليه توصيفات مثل “الفائدة في الداخل” أو “التخصص النادر” . هكذا أفلت من الخدمة العسكرية عشرات الكتّاب والإعلاميين وحتى بعض المحامين والمحاسبين كلما أثبتوا كفاءة، غير أن بطل العالم وصاحب الميدالية الأولمبية لم يدخل تحت هذا السقف.كان الإصرار على إيقاف مسيرته ونجوميته أكبر.
في الستينيات، تعني الخدمة العسكرية الأميركية أن المجنّد سيذهب إلى فيتنام. رفض محمد علي أن يقتل من لا يعرفهم. لعب ورقة أخرى من أوراق الإعفاء المتوفرة حين قال أن العقيدة التي ينتسب إليها تمنعه من إراقة الدماء. وفيما مُنح هذا الحق لمئات الشبان، من المسلمين والهندوس والسيخ وبعض الأقليات المذهبية المسيحية، لم تغيّر الإدارة العسكرية قرارها، وبات محمد علي أمام خيارين: الرضوخ لمشيئة السلطة أو المرور للمحاكمة العسكرية بتهمة الفرار من التجنيد. كانت خطة في غاية الحبك لإنهاء وجع الرأس المتأتي من بطل العالم في الملاكمة.
لم ينتبه المتآمرون أن قضية محمد علي قد نقلت حرب الفيتنام إلى مستويات أعلى من العلنية، وهي في أخطر منعرجاتها بين 1966 و1967. بات محمد علي يمرّر رسائله ضد الحرب من خلال وسائل الإعلام التي تنتظر أخبار محاكمته. لم يتفطّن النظام الأميركي إلا متأخراً بأنه خسر معركته مع الملاكم، كما كان يخسر العديد من المعارك مع الفيتكونغ. نجح محمد علي في إحراج الدولة، ولفت الانتباه إلى الجريمة التي يشارك فيها الجميع بالسكوت، وبالتدريج انبثق تيّار أوسع يناهض الحرب ويلتقي مع خطّ المطالبة بالحقوق المدنية لكل الأميركيين على حد السواء. وتسبّب إشعال الأضواء حول الحرب في بدء تسريب أخبار الخسائر الأميركية في الأرواح والأموال.
وهو يرفض التجنيد، نجح محمد علي أيما نجاح في إدارة لعبته الاتصالية، بمهارات رجل سياسة وإن افتقد الحنكة والمهادنة، وبعمق مثقف دون اعتماد على نظريات ومفاهيم. ببضعة خطوات وحركات أمام الشاشات، لم يعد محمد علي مجرّد ملاكم. إنه يضرب رأساً في الجانب المظلم من الأبهة الأميركية في عزّ ازدهارها. كان يلامس اللحم الحي للسياسات الخبيثة التي تدبّر مستقبل الناس.
لقد توفّرت في هذا الملاكم ما تحتاجه كلمة الحق من صلابة معنوية ومن دقة تصويب. وتوافق صعود نجمه مع حاجة بشرية للانبهار بأبطال. كثيراً ما ينظر صوب الكاميرا بعينين غاضبتين، يوجّه كلامه الحاد إلى الخصوم، يتحدثّ باسم البشرية قاطبة في صراعها مع الظلم والحيف، ويفسّر قناعاته العقائدية، أو يتطرّق إلى قراره بتغيير اسمه لأنه لا يريد أن يحمل اسم رجل أبيض استعبد منذ قرون أحد أجداده.
اختار محمد علي السجنَ على قتل الأبرياء في فيتنام، وهي حركة نقشت اسمه مع أكبر دعاة السلام في القرن العشرين مع غاندي وأينشتاين وبرغسون. كان السجن فرصة أخرى لصقل شخصيته وطريقة لعبه. لم يُغضه من المسألة سوى تجريده من لقبه العالمي، وحين سيعود إلى الحلبة نهاية 1970 سيجد أن مياه كثيرة قد جرت تحت الجسر في غيابه.
أسماء جديدة صعدت إلى القمة، لم يكن يعنيها سوى الفوز والشهرة وجمع الثروة بالوكالة. لم يعزّ محمد علي إلا تلك المكانة الاجتماعية الجديدة التي أخذها كبطل شعبي يحمل هموم الناس ويعبّر عنها كلما ظهر في الفضاء العام بخطاب رشيق مليء بالثقة، دون أن يتورّع عن بلوغ درجات من الوقاحة، وهل يوجد ما هو أكثر وقاحة مما فعلته به الدولة الأميركية. لقد تمخّض القهر الذي تعرّض له محمد علي على شخصية صاخبة متمردة تقول في الواقع ما لا يجرؤ الآخرون على قوله حتى حين يتحدّثون إلى أنفسهم.
كل ذلك لم يكن كافياً كي يرضى محمد علي عن نفسه. بل إنه استاء بأن يختزله كثيرون في هذا الموقع فيما يرث الملاكمون ألقابه وهو حي. في مارس 1971، اصطدم بالواقع حين نازل جو فرايزر. اعتقد إلى حين أن توقفه لم يؤثر على قدراته، لكن لا يوجد ما يعادل المنافسة في صقل الموهبة. كانت تلك الهزيمة فرصة لإطلاق سهام كثيرة نحوه من الأعداء المتشفّين، واجهها محمد علي بكثير من الثقة في النفس، وبدأ يعدّ للثأر من فرايزر.
استمر هذا الإعداد ثلاث سنوات، وافق فيها محمد علي على مواجهة خصوم من الصف الثاني، فلا فائدة من الدخول في صراع العمالقة قبل أن تمتلك فرصة الفوز. وبين أكتوبر 1974 وأكتوبر 1975 سيكتب ملمحته، أي بين الثأر من فرايزر في نيويورك، مروراً بالانتصار على بطل العالم جورج فورمان في كنشاسا، وصولاً إلى كسب تحدّي فرايزر لكسر التعادل في المواجهات في مباراة ملحمية أقيمت في الفيلبين.
كانت مواجهات أسطورية ادخر لها محمد علي كل قواه وكل فلسفته في اللعب، ليجعلها درساً في الملاكمة وفي فنون الحياة. وحين استعاد أمجاده الرياضية، بات بشكل حاسم سلطة مضادة، أشبه بمجرى مياه هادرة لم يعد يمكن تعطيلها. لقد انفجر محمد علي في وجه الخصوم (فوق الحلبة وخارجها) مثل لغم زرعه مقاومون في أرض محتلة.
4. الحلبة والمعنى
لا نُسقط مفهوم الالتزام عادة إلا على المثقفين. هم من اخترعوه، وعليه، فقد احتكروه. لكن محمد علي جسّد المفهوم بشكل نابض. انتصرت القضايا التي اختارها، أو تقدّمت خطوات إلى الأمام. وحين انتهت مسيرته الرياضية، بدأ مسيرة أخرى في خدمة القضايا التي أحبها. مسيرة أقل صخباً بالتأكيد، فقد نضج محمد علي وفهم أن سلطته المعنوية ينبغي أن تُسكب في قنوات القوة الناعمة.
هذا دون أن ننسى أن ضربات أخرى سدّدتها له الحياة حتى بعد أن غادر الحلبة حين اكتشف الأطباء تسارع مرض باركينسون في جسده. ومن عظمة محمد علي أن جعل من مرضه فرصة للإضاءة على واقع من يشتركون معه في ذات العِلة، ويساهم في جمع التبرعات لهم. لم يتورع بعضهم في نقده على لعب هذا الدور باعتبار أن التبرّع جزء من المنظومة الرأسمالية التي كان يحاربها، غير أن الملاكم السابق يعرف أن لكل زمن قفازاتُه.
تُفسَّر إصابة محمد علي بهذا المرض بالضربات القوية التي كان يتلقاها على رأسه لعقود. لكن لماذا لا يصاب بالباركينسون جميع الملاكمين؟ كثيراً ما أعيد ذلك إلى أن كلاي من يتلق اللكمات من المنافسين خلال خوض المباريات فقط، بل كان يجعل من تلقي اللكمات في وجهه جزءاً من تدريباته. بعبارة أخرى، كان يتدرّب على تلقي الضربات في الرأس، في أكثر ما يمكن أن يؤلم ملاكماً، وهذا التدريب هو ما يفسّر صبره الطويل على غارات خصومه، حتى إذا صادف أن وصلته لكمة ثقيلة فهو من القلائل الذين يضلون ثابتين على أرجلهم.
تلك القسوة مع النفس هي التي صنعت مجد محمد علي وأسطورته، ولعله من القلائل الذين يستحقون الأسطورة التي نسجها الناس حوله. نحتَ نفسه من صخر لا يلقي بالاً بمعاول الهدم التي يُعملها الأعداء في لحمه. كان حين يحاصره الخصوم في ركن الحلبة، كأنما يترنّم بقصيدة “نشيد الجبّار”، قبل أن تنطفئ جهودهم ويَستلمهم منهكين في نهاية المواجهة. تلك الخطة هي التي جعلته ينجو من مصير يُعتقد أنه محتوم للأبطال التراجيديين حين يخرجون عن خيط السير المحدّد.
فهم سريعاً – وربما بحدس – أنه لا معنى أن تدور معارك الملاكمة فوق الحلبة وحدها، سيختزل ذلك أتعاب الملاكمين وآلامهم في تسلية للمتفرجين. حتى أمجادهم لن تكون غير فصول في المأساة. أي شقاء أقسى من أن يكون ذلك الصبر على الضربات والآلام بلا معنى. الحلبة ليست سوى بقعة ضوء ينبغي أن تحيل إلى ما في الواقع من مظالم. ينبغي أن تجذّر الناس في فهم الوجود، أليس ذلك ما يفعله الأدب الرفيع، ما تبتغيه الفلسفة الصادقة، ما يتوسّله الفن.