مزحة كونديرا

يرحل كونديرا فنطوي صفحة كاتب آخر. وسيأتي آخرون لإحياء حفلات صاخبة: أصحاب أرقام مبيعات فلكية، متوّجون بنوبل، متورطون في فضائح، عنصريّون... كانت رواية "المزحة" تشير إلى ما يترتّب عن خطأٍ في القراءة. فماذاعمن لا يقرؤون إلا على وجه الخطأ؟

مزحة كونديرا
ميلان كونديرا (من صحيفة لوفيغارو الفرنسية)

انطلقت شهرة الكاتب التشيكي ميلان كونديرا (1928 – 2023) مباشرة بعد نشر روايته الأولى التي حملت عنوان “المزحة” في عام 1967 .كان هناك نظام قمعي يحكم تشيكوسلوفاكيا، لكنه فتح كوّة لحرية التعبير. صدّق بعض الشباب الأمر، قبل أن ينطبق عليهم الفخ، ومنهم كونديرا…

كان الكاتب التشيكي يودّ أن يروي حكاية حب. لودفيك يان هو طالب ينتمي للحزب، أُعجب بزميلته فقرّر إرسال بطاقة بريدية لمدّ جسور الود معها. عنّ له أن يكون ساخراً، فكتب: “التفاؤل أفيون البشرية. الروح المعافاة تفوح برائحة الغباء النتنة. عاش تروتسكي!”. كان ذلك سبباً كافياً لطرد الشاب من الحزب. كأن المؤلف أراد أن ينبّهنا إلى خطورة أن تُقرأ المزحة من زاوية الجد.

حين رحل كونديرا منذ أيام صار شغلاً شاغلاً لمواقع التواصل العربية. هذا يمجّد وهذا يشيطن، وهذا يقول كيف لم ينل نوبل، وشريحة بدأت باكتشافه بمناسبة هذه السجالات الصغيرة، ولعل هؤلاء لا يكتشفون المؤلفين إلا متوّجين بالجزائر أو مفارقين للحياة.

ما حدث لـ”كونديرا العربي” في أيام كان أشبه بمزحة. زوبعة من السطحيات والآراء الخفيفة التي تطمس كل معنى. وصلت إلى العربية معظم كتابات كونديرا لكن لم يصل شيء كثير من أدبه. لم تصل قدرته على تحويل الفكرة إلى سرديات صغرى. لم تصل سخريته العميقة من الحياة، أو تلك المسافات التي يأخذها من الأضواء كي يجوّد رواياته، نصاً وشخصيات وتعرّجات سردية.

تكتشف وأنت تتصفح التعليقات حول كونديرا أنه قُرأ من أجل التباهي. من أجل يوم كهذا، يوم رحيله، كي يذكر زيد وعمرو كم قرآ من رواية للكاتب التشيكي. لم نقرأ تحليلات، لم نجد غوصاً وتجذيراً لأفكار، ما وجدنا إلا التسطيح والشكليات.

وفي حفلات الاحتفاء البروتوكولي، لم يقل أحد أننا – نحن العرب – غير موجودين في عوالم أدب كونديرا كأننا لا ننتمي للعالم، وهذا لا يعيب كاتباً في حدّ ذاته، لكن يعيبه – بالنسبة لنا – أنه احتفى أيما احتفاء بالعدو الصهيوني حين سلّمه إحدى جوائزه منتصف الثمانينيات من القرن الفائت. لم يكن لنا موقف منه – كثقافة – لم يسمع بنا أصلا إذا كنا قد غضبنا، ولن يسمع بنا ونحن نحتفي بأدبه.

يرحل كونديرا فنطوي صفحة كاتب آخر. وسيأتي آخرون لإحياء حفلات صاخبة: أصحاب أرقام مبيعات عالية، متوّجون بنوبل، متورطون في فضائح جنسية، منتصرون للأعداء، عنصريّون…

كانت رواية “المزحة” تشير إلى ما يترتّب من خطر ينجم عن خطأٍ في القراءة. فماذا يترتّب على من لا يقرؤون إلا على وجه الخطأ؟

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة