ما لم يُروَ عن منع مسح الأحذية في الجزائر
في العام 1963، أعلن بن بلّة عن قراره الشهير بمنع مهنة مسح الأحذية في الجزائر، وهو ما رسّمه بومدين بمرسوم تنفيذي بعد بضع سنوات مِن ذلك. لكن التاريخ الرسميَّ لا يُخبرنا الكثير عن صاحب الفكرة الحقيقي.

في الثامن عشر من فبراير/ شباط 1963، ولم تكُن قد مرّت سوى سبعةِ أشهرَ على استقلال البلاد، جمَعَ الرئيسُ الجزائريُّ الراحل أحمد بن بلّة (1916 – 2012) عدداً من ماسِحي الأحذية في قاعة “الماجستيك” (الأطلس حالياً) بحيِّ باب الواد بالجزائر العاصمة، وألقى خطاباً بحضُور مجاهدِين في الصفَّين الأوّل والثاني، مُعلِناً فيه قراره الشهير بمنع مهنة مسح الأحذية، وإرسالِ ممارسيها إلى مراكز لتعليمهم.
وبوصول هوّاري بومدين (1932 – 1978) إلى الرئاسة في انقلاب عسكري بعد قرابة ثلاث سنواتٍ من ذلك، أصدَر مرسوماً يمنعُ مسح الأحذية وتلقّي “بقشيش” في المطاعم وسيّارات الأُجرة، وغيرها من الممارساتِ التي رأى أنها تمسُّ بكرامة المواطنين. لكنَّ القضاءَ على تلك المهنة سيظلّ يُنسب إلى بن بلّة.

(مرسوم تنفيذي صادر عام 1969 يمنع ممارسة مهنة الأحذية)
والحقيقةُ أنَّ بن بلّة لم يكُن صاحبَ فكرة جمْع الـ”يا ولد”، وهي التسمية التي كان الفرنسيّون يُطلقونها على ماسحي الأحذية الأطفالِ، ومنْحِهم فرصةً لكسب رزقهم بطُرُقٍ تضمن كرامتهم؛ فقد خطّط لذلك المناضلُ الراحل بلقاسم راجف (1909 – 1989)، الذي كان حينها مستشاراً لبشير بومعزة (1927 – 2009) وزيرِ العمل والشؤون الاجتماعية في أوّل حكومة جزائرية بعد الاستقلال.

(بلقاسم راجف)
حين كشف راجف لبومعزة عن فكرته، أجابَ الأخير، بحسب ما يروي عددٌ ممّن عاصروهما، بأنَّ “الرئيس سيغضب لو أطلقنا المبادرة مِن دون إشراكه”. وهكذا، جرى استقدامُ عددٍ من ماسحي الأحذية (كان كثيرٌ منهم أيتاماً وأبناء شهداء) إلى ذلك اللقاء التاريخي في “الماجستيك”؛ حيثُ ألقى بن بلّة خطابَه، قبل أنْ يُشرف على مهرجانٍ لتحطيم أدوات مسح الأحذية وحرقِها في “ساحة الشهداء” التي كانت تحمل، خلال الفترة الاستعمارية، اسمَ “ساحة الحكومة”.
وكان لإقامة “المهرجان” في هذه الساحة دون سواها دلالةٌ رمزيةٌ؛ فالمكانُ الذي يُذكِّر بمشاهدَ لأطفالٍ جزائريّين يُحنون ظهورهم لمسح أحذية المستوطنين الفرنسيّين سيُصبح المكانَ نفسه الذي يشهد وضع حدٍّ لتلك المهنة بشكل رسمي، في إشارةٍ إلى “القطْع” مع إرثٍ ثقيلٍ من الممارسات الاستعمارية.
ولاحقاً، ابتداءً من العام 1989 تحديداً، سيجري اعتماد تاريخ الثامن عشر مِن فبراير/ شباط “يوماً وطنياً للشهيد”.

(“يا ولد” في بوسعادة، 1935)
تكفَّل بلقاسم راجف مع صادق بتال (1922 – 2013)، الضابطِ السابق في “جيش التحرير الوطني”، والذي كان سنة 1963 وزيراً منتدَباً مكلَّفاً بالشباب والرياضة، بتوفير التعليم والتكوين للأيتام وأبناء الشهداء والـ”يا ولد”، ونال بن بلّة شرف مسح “مسح الأحذية” من شوارع المدن الجزائرية وساحاتها، في حين لا يذكُر التاريخُ الرسميُّ هذين الرجلين اللذين كانا من أوائل أعضاء “نجم شمال أفريقيا” (1926 – 1937)؛ أبرزِ أحزاب الحركة الوطنية الجزائرية.
ومثلما أغفل التاريخُ الرسميُّ اسمَي راجف وبتال، لن يذكُر أحدٌ أسماء هؤلاء الأطفال ماسحي الأحذية، والذين استعان مناضلو الثورة الجزائرية (1954 – 1962) بكثيرٍ منهُم في المدن لنقل الأسلحة والمراسلات وترصُّد حركات الجنود الفرنسيّين قبل تنفيذ العمليات الفدائية، وستقتصر استعادتُهم على أدوار هامشية في بعض الأفلام التي تناولت الثورة.
وخلال الفترة الاستعمارية، لم يكُن مسحُ الأحذية مهنةً معيبةً في الجزائر كما يُنظَر إليها اليوم؛ فقد فرضت الأوضاعُ الاجتماعية المزرية على كثيرٍ من الأُسَر، خصوصاً التي فقدت مُعيلها، تدبُّر قوت يومها، وكانت تلك المهنةُ ضمن ما هو متاحٌ للجزائريّين في بلَدٍ استحوذ المستعمِر وأتباعُه على كلّ سُبُل العيش الكريم فيه.

صحافي جزائري مِن مواليد 1959 في بني ورثيلان بسطيف. خرّيج معهد العلوم السياسية والإعلامية بجامعة الجزائر سنة 1985. بدأ العمل الصحافي مِن صحيفة “الشعب” في نفس السنة. وبعد استقراره في وهران سنة 1989، انتقل إلى “المساء”، ثم “الخبر” منذ 1997.