هل علينا أن نكون أكثر صبراً مِن كاتب ياسين؟
هناك حكاية مملّة تدور بين بعض النقّاد الذين يُبرّرون غيابهم عن المشهد الثقافي بغياب المنابر الصحافية، وبكون الأخيرة لا تطلب آراءهم. لماذا لا يُفكّر هؤلاء في إطلاق مطبوعات أو مواقع تخصُّهم ويكفّوا عن التباكي؟

لم يكُن الكاتبُ الجزائري كاتب ياسين (1929 – 1989) مُتصالحاً مع النقّاد. كان دمُه يفورُ إذا سمع نقداً لا يُعجبه، بل إنّه كاد يصفع الناقدَ الفرنسيَّ جان ديجو، بعدما صرّح هذا بأنّ صاحبَ “نجمة” خدع القرّاء، و”لم يكتب سوى روايةٍ واحدة في حياته ثم أصدر تنويعات عنها”.
ضايقه ذلك الكلام، لم ير فيه نقداً بل تطاوُلاً ونيّةً للإنقاص من قيمته. ساءت علاقتُه بِديجو، الذي كان من أنبه المنشغلين بالأدب الجزائري بعد الاستقلال، وظلّ حاقداً عليه إلى آخر أيّامه. هذا لا يعني أنَّ الروائيَّ الجزائري أخطأ في موقفه؛ فالناقد ليس بالضرورة على حقّ؛ إذْ مِن بين النُقّاد مَن يتخفّى وراء ملاءة النقد ليُصفّي حسابات شخصية، ويقضي مصالح ذاتية.
حدث الأمرُ نفسُه مع محمّد ديب، الذي تساءل يوماً بحسرة عن خلفيات تجُاهل النقّاد الفرنسيّين له، بينما تُدْرَسُ كتبُه وتُدَرَّس خارج الفضاء الفرنكفوني.
على الأقل فقد تخاصم كاتب ياسين مع ناقد حقيقي، مع رجل تُحسَب له العديد من الأعمال، التي لا تزال مرجعيةً، في فهم وتحليل النص الروائي، لكن مع من يتخاصم الكتّاب الجزائريون اليوم؟ هل هناك، فعلاً، نُقّاد يُمكن أن نُقارنهم بجان ديجو أو شارل بون أو محمد مصايف؟
جرت العادة في السنين الماضية أنَّ كلَّ مَن يتبوّأ مقعداً في جامعةٍ يُضيف إلى بطاقة هويته صفةَ ناقد. هكذا صار عددُ النقّاد يتناسب طردياً مع عدد العاملين في الجامعات. ومع زيادة عدد الجامعات منذ وصول الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة إلى السلطة، باتت الجزائر تحصي نقّاداً يتجاوز عددُهم عدد الكتّاب، لكن نتاجهم ينحصر، غالباً، في منشورات على فيسبوك، بينما على الواقع لا يعلم أحدٌ أنّهم يمارسون نقداً، ولم تر سوى قلّةٍ من الناس أعمالهم.
بالتأكيد، لا يصحّ تعميم هذه الملاحظة على الجميع؛ فقد برزت، في الفترة الأخيرة، بعضُ التجارب التي تفيد النقد، في الجزائر، على غرار مَخبر تحليل الخطاب في “جامعة مولود معمري”، أو بعض النقّاد الصارمين في تيزي وزّو، وأم البواقي، وقسنطينة، وعين الدفلى.
هل نريد من الكتّاب الجُدُدِ أن يكونوا أكثر صبراً مِن كاتب ياسين الذي كاد يصفع ناقداً؟
اللافت أنَّ أكبر حركة نقدية تدورُ خارج المركز العاصمي، لكنها تنحصر شمالاً. أمّا، الجنوب فيبدو مستأنساً بقلّة طموحاته، والأغرّبُ أنَّ أكثرَ من يَحملون صفة ناقد وأعلاهُم ضجيجاً في فيسبوك إنما هم نقّاد عاجزون عن مسايرة الأدب، وبعضُهم عاجزون حتى عن إقناع طلبتهم بحضور دروسهم في الجامعات. كيف نصدّق، إذن، أنّهم يملكون كفاءة في مقاربة أحدث الروايات؟
هناك حكاية مملّة لا تزال تدور بين بعض النقّاد الذين يُبرّرون غيابهم بغياب المنابر الصحافية، وبكون الصُّحُف أو المواقع الإلكترونية لا تطلب آراءهم. لكن، لماذا لا يُفكّر هؤلاء في إصدار مطبوعات أو إطلاق مواقع تخصُّهم ويكفّون عن التباكي؟ صحيحٌ أنَّ ثمّةَ مطبوعاتٍ جامعيةٍ تختصّ في النقد، لكنَّ جُلَّها لا يزال غارقاً في تكرار واجترار نظريات وتطبيقات قديمة، تستعين بمراجع أحدثُها مرّت عليه عشرُ سنوات.
يُفتَرضُ أنَّ الناقدَ شخصٌ ديمقراطي، يؤمن بالاختلاف، وأنَّ الأدبَ ليس طبقةً واحدة بل طبقات، بينما المُلاحظ أن النقد في الجزائر يكاد يتحوّل إلى خُطَب دينية؛ إذ باتت مقاربة النصوص تخضع لوجهات نظر إسلامية، وتحليلُها يجري مِن منظور الحلال والحرام، والمتَّفَق وغير المتَّفَق عليه. صارت تلك المقالات “النقدية” أشبهً بفتاوى الفقهاء. وحين يعترض كاتبٌ عن هذا المنحى، يوصَف بضيّق الصدر أو أّنه لا يتحمّل النقد. هل نُريد من الكتّاب الجُدُد أن يكونوا أكثر صبراً من كاتب ياسين الذي كاد يصفع ناقداً؟
تدور عجلة النقد الأدبي في الجزائر بين نُقّاد يريدون اعترافاً سريعاً من النّاس بفضلهم، رغم أنّهم لم يقدّموا شيئاً يستحق الذكر، وكتّابٍ كُلّما علّقوا أو اعترضوا على هفوات النقّاد نالوا نصيباً من اللوم، بزعم أنَّ عليهم تقبُّلَ النقد مهما كان متحامِلاً عليهم.
يُذكّرنا هذا الوضعُ بِناقد فرنسي قديم اسمُه سانت بوف (1804 – 1869)، اشتهر بشخصنة نقده وشنِّ “حروب” على كبار الكتّاب: بودلير، وبلزاك، وغيرهما. لم يعُد التاريخ يذكر سانت بوف لكنه يمعن في التّذكير بالكتّاب الذين اتّخذهم ضحايا لشهوته في الشهرة السريعة.

كاتبٌ وصحافي جزائري. مِن إصداراته: “جنائن الشرق الملتهبة”، و”أربعون عاماً في انتظار إيزابيل”، و”حطب سراييفو”.