هل كان غاندي محض “إبداع أدبي”؟

يَعتبر الكاتب الفرنسي الأميركي، غاي سورمان، في كتابه "قاموسي للتفاهة"، الصادر حديثاً، أنَّ المهاتما غاندي وقبل أن يُصبح مُحرِّر الهند، كان محض إبداع أدبي ساهم في خلقه أعظم كاتبَين في الفترة التي عاش فيها: البنغالي روبندرونات طاغور، والفرنسي رومان رولان.

هل كان غاندي محض “إبداع أدبي”؟
(غاندي في إستوديو تصوير بلندن، سبتمبر 1931)

في كتابه “قاموسي للتفاهة” (2021)، الصادر عن “منشورات غراسي”، يُخصص الكاتب الفرنسي الأميركي غاي سورمان (1944) فصلاً كاملاً لشخصية المهاتما غاندي (1869 – 1948) الأُسطورية. وكما يُشير إليه العنوان، فإنّ ما سيلتقي به القارئ في هذا الكتاب سيكون لا محالة مختلفاً تماماً عمّا اعتاد على قراءته عن واحدٍ مِن أبرز شخصيات القرن العشرين.

يميل سورمان إلى اعتبار غاندي، الذي لُقّب بـ”المهاتما”، أي “الروح العظيمة”، محضَ شخصية روائية؛ إبداعٍ أدبي وإعادة خلقٍ للذات ليس إلّا! يروي الكاتب بأنَّ غاندي زار سويسرا في العام 1930 لملاقاة رومان رولان (1866 – 1944)؛ الكاتبِ والمثقَّف الفرنسي صاحبِ النفوذ الأكبر في وقته. كان رولان المعروفُ بميوله “السلمية” يعيش قريباً مِن جنيف في منفاه الاختياري، أمّا غاندي فكان في طريقه إلى لندن مِن أجل التفاوُض مع الحكومة البريطانية حول استقلال الهند، لكنّه أصرَّ على التوقُّف في سويسرا للقاء صاحب رواية “جان كريستوف”.

مُستعيناً بأخت رولان، والتي لعبت دور الترجمان، خاطبه المهاتما قائلاً: “أنا غاندي. وأنتَ مِن صنعني“. شكّلَت هذه الجملة كلّ الحوار الذي دار بين الرجُلين، ولم يتلفّظ كلاهما بأيّ شيء آخر. كان الكاتبُ الفرنسيُّ يرتدي معطف فراك وياقة صلبة، جلس أمام البيانو وراح يعزف لغاندي الذي كان ملفوفاً في إزاره الأبيض الشهير. استغرق عزفُ رولان ساعات طويلة، وأكثر ما عزفه كانت مقطوعات لبيتهوفن الذي كان قد ألّف سيرته الذاتية عام 1903.

خلال لقائه به في سويسرا، خاطَب الزعيمُ الهندي رومان رولان قائلاً: “أنا غاندي، وأنتَ مِن صنعني”

يقول سورمان إنّه لِفهم هذا المشهد الغريب، يجب أن نكون مدركِين مُسبَقاً بأنّ غاندي، وقبل أن يُصبح مُحرِّر الهند، كان محض إبداع أدبي ساهم في خلقه أعظم كاتبَين في الفترة التي عاش فيها: أوّلُهما البنغالي روبندرونات طاغور، وثانيهما رومان رولان، وكلاهما نال “جائزة نوبل للآداب”. (الأوّل سنة 1913، والثاني سنة 1915).

يُفصِّل الكاتبُ الفرنسيُّ دورَ كُلّ مِن الكاتبَين في صناعة هذا “الإبداع الأدبي”: “كان طاغور شبه إله في بلده الهند. وبالرغم مِن أنّه كان يكتب بالإنكليزية وشديد التعلق بها، إلاّ أنّه كان يتمنّى الاستقلال شريطة ألاّ يغدوّ وطنُه نسخة مطابِقة للغرب: يجب على الهند أن يُشكّل بديلاً روحياً للمادية الغربية. كان طاغور قد سمع عن هذا المحامي الشابّ المقاوِم، والذي كان يُنادي بنبذ العنف. لم يكن يومذاك سوى واحدٍ مِن القادة الكثيرين في النضال ضد الاستعمار، بيدَ أنّه تميّز عنهُم برفضه للسياسة التقليدية واختياره للمسلك الروحي المستوحى مِن النصوص الهندية القديمة، الأوبانيشاد (Upanishads).. سيقوم طاغور بزيارة غاندي في أشرمه (معتكفه) بمدينة أحمد أباد، وسيكتشف فيه الكائن الأسمى لـ الأوبانيشاد، فيُطلِق عليه اسم المهاتما، أي الروح العظيمة؛ ذلك الذي يجمع بين المعرفة والحب“.

في تلك الأثناء، كان رومان رولان – يقول سورمان – يعيش حالةً أشبه بالتقزُّز مِن الغرب بسبب مجازر الحرب الكبرى، والتي ستُصبح لاحقاً الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، فانطلق في رحلة بحث عن عالَم آخر.

يُضيف: “بفضل طاغور وشلّة مِن تلامذته المولَعين بالسلمية، سيجمع رولان كمّاً معتبَراً مِن المعلومات عن المهاتما شكّلت سنة 1924 أوّل سيرة ذاتية تُنشر حول غاندي. في نظر رولان، كان غاندي مسيحاً جديداً، فأطلق عليه وصف “مسيح الشرق”. وبالرغم مِن أنّه لم يسبق له أن رآه، فقد كتب عنه واصفاً “شيمة صبره وحبّه الكبيرَين”، ثم يضيف قائلاً: ‘ها هو ذلك الرجل الذي هزّ عرش الإمبراطورية البريطانية وكان له السبق في قيادة أقوى حركة في السياسة الإنسانية بعد أكثر مِن ألفي سنة (مِن الركود)‘”.

وبالنظر إلى أهمية الكتاب، فقد عمل البريطانيّون بكلّ الطُّرق على منعه في الهند. لكنّه وجد طريقه إلى القرّاء، وجرت ترجمتُه إلى معظم لغات البلد. وإلى اليوم، لا تكاد تخلو مدينةٌ كبيرة في الهند مِن مكتبة تحمل اسم رومان رولان.

كتاب قاموسي للتفاهة

حين قرّر “حزب المؤتمر” (والذي لمّ شمل المنادِين باستقلال الهند) تعيين رئيس له سنة 1930، لم يجد غاندي صعوبةً في الظفر بهذا المنصب. ويعود الفضل في ذلك، بالطبع، إلى رولان وطاغور؛ إذ لم يبقَ لهذا “البطل الأدبي” سوى أن يعيش وفق طموحات صانعيه. فهل سينجح في ذلك بفضل قدسيته أم مستعمِلاً مكره؟

لم يفصل الهنديّون في الإجابة عن هذا السؤال إلى حد الآن. يقول سورمان: “يرى اليمين القوميُّ بأنّ غاندي كان شخصاً متلاعِباً عرف كيف يزرع شعور وخز الضمير في البريطانيّين: الظاهر بأنّه لم يحارب الإنكليز، بل عرف كيف يضمُّهم إلى صفه. أمّا أنصار اليسار، وعلى رأسهم ‘حزب المؤتمر’، فيُرجّحون الاحتفاء به بصفته قدّيساً تجاوَز كلّ ديانات الهند، مُشكّلاً منها خليطاً واحداً مِن الحكمة“.

في فيلم يعود تاريخه إلى سنة 1930، السنة التي شهدت “مسيرة الملح” التي عبّر فيها الهنديون عن رفضهم احتكار البريطانيّين لهذه المادة، يَظهر غاندي ماشياً نحو البحر بخطىً ثابتة، ومتّكئاً على عصى طويلة. لكن، وبعيداً عن أعين الكاميرا، تكشف صُوَر التُقطت له عن غاندي آخر… شخصٍ غير مبال يجلس فوق كرسيّ محمولٍ على الأكتاف!

قاصّ ومترجم من القبائلية والفرنسية والإنكليزية إلى العربية، من مواليد 1986. يعملُ أستاذاً في جامعة سطيف. تصدر له قريباً مجموعة قصصية، وترجمة مشتركة من الفرنسية لكتاب “من الإنسان إلى الربّ: رحلة في قلب الفلسفة والأدب”.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة