“هنا لندن”.. دقّات بيغ بِن في أفولها الطويل
ليست نهاية إذاعة "بي بي سي" العربية مؤشّراً إلى نهاية بعض أشكال الإنتاج الصحفي فحسب. إنّها أيضاً مؤشّر إلى موجة جديدة من نهاية الإمبراطورية البريطانية التي بدأت شمسُها في الأفول منذ الحرب العالمية الثانية.
لا يسعني أن أتذكّر أحداثاً بين نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، مثل الانتفاضة الفلسطينية أو حرب الخليج أو انهيار الاتحاد السوفييتي، إلا وهي ممتزجة بدقّات بيغ بِن على رأس الساعة، وصوت أحد مذيعي راديو “بي بي سي” وهو يقول: “هنا لندن.. الساعة تشير الآن إلى.. “. في تلك الأيام المليئة بأحداث سنعرف لاحقاً أنها تحوُّلات نحو زمن جديد، كان والِدي لا يُتابع الأخبار إلّا من خلال الخدمة العربية لـ”هيئة الإذاعة البريطانية”، وكان، مثل أبناء جيله، يُسمّيها “إذاعة لُندرة”.
ينطبق على “هيئة الإذاعة البريطانية” ما كان الفيلسوف الألماني هيغل يقوله عن الصحف في القرن التاسع عشر؛ إنّها أحد أشكال الصلاة في العصر الحديث، في تواترها وانتظامها وانضباط الناس على مواعيدها. لا أدري كيف تشكّلت هذه العادة لدى والدي. أتذكّر دقّات ساعة بيغ بن كأنها تصنعُ إيقاعاً لأيامنا، فبعد ساعات من التدريس صباحاً، يُجدّد معرفته بما يحدث في العالم عبر نشرات “بي بي سي” المتلاحقة. يبدأ ذلك مباشرةً بعد أن يُنهي غداءه، فترافقه قرابة ساعة قبيل أن يغفوَ على صوتها في قيلولته، ويمتدّ حضورها إلى ما بعد ذلك، حيث تصاحبه في بعض أنشطته المسائية كخلفية وهو منشغلٌ بهواياته في العناية بالعصافير وإصلاح الآلات الإلكترونية، كالألعاب والساعات والراديوهات، حتى غير المعطوبة منها.
في السهرة، يأخذه التلفزيون بعض الوقت. يتابع بفتور نشرة الأنباء الرئيسية، فقد سبقها بمعرفة الأهمّ والبارز من أخبار العالم. وهذه الأخيرة هي في الغالب آخر ما تهتمّ به نشرة الأنباء في صيغتها التونسية، فمادّتها الرئيسية تغطيةُ العابر من أنشطة هذا الرئيس أو ذاك (وهما رئيسان لا غيرهما في تاريخ تونس حتى ذلك الوقت). يُقابل هذا الفتورَ في مشاهدة شريط الأنباء اهتمامٌ بالغ بمضمون النشرة الجوية، وبعدها لا تتبقّ سوى خيارات محدودة، بمتابعة برنامجٍ في قناة “رايونو” الإيطالية أو فيلم في القناة الفرنسية الثانية، وكلاهما كان يصل تونس عبر اللاقط الهوائي البسيط، لتروّح القناتان عن شعب ضجرٍ، وتُهوّن عليه هضم ما استهلكه عبر الإعلام المحلّي. وفي نهاية اليوم، يعود والدي إلى “إذاعة لندرة”، يسهر قليلاً مع برامجها الثقافية أو يستمتع بمقترحاتها الموسيقية التي لا تغادر دائرة الكبار، فتنتقي للمستمعين أعمالاً لمحمد عبد الوهاب وأمّ كلثوم وفريد الأطرش وفيروز.
الاقتصار، في ذلك الزمن، على الإعلام الرسمي يعني استهلاك ترتيب مغلوط لأولويات الفهم
لم يكن هذا الحضور الكبير للإذاعة البريطانية في حياتنا نوعاً من الأبّهة و”البريستيج”، أو من باب “ولع المغلوب بتقليد الغالب”، ولم يكن من ترف النخبوية في شيء؛ إذ يضطرّ كلُّ من يرغب في مادة دسمة من الأخبار والمعرفة أن يذهب بعيداً عبر أمواج الأثير، فنشرات الأخبار في الإذاعة التونسية ممّا لا يُعوَّل عليه في فهم ما يحدث، وأصلاً لا يمرّ عبر أثيرها إلّا ما ترضى عليه السلطة ويخدم مصالحها، هذا إذا توفرّت المعلومة من أساسه. أن تقتصر، في ذلك الزمن، على ما تطرحه وسائل الإعلام الرسمية يعني ألّا تعرف الجزء الأكبر من أحداث العالم، ويعني أن تستهلك ترتيباً مغلوطاً لأولويات الفهم لدى أي كائن بشري يعيش في عالم نهاية القرن العشرين.
كانت ثمّة بلدانٌ كاملةٌ شبه ممحوّة من الخريطة، فلا شيء يصل من أخبار إيران، أو عن صراعات الأنظمة الصديقة (ليبيا ومصر وسورية) مع معارضيها، وكانت الحرب في أفغانستان من بين المسكوت عنه. حتى الأحداث القريبة من تونس، كفصول العشرية السوداء في الجزائر لا يُسمع منها شيء، بل ينسحب الأمر على ما يقع في تونس ذاتها، كما هو الحال مع عمليات “الموساد” ضدّ القيادات الفلسطينية في تونس، أو صدى المعارضة بشقَّيها اليساري والإسلامي وتحرُّكاتها في الداخل والخارج. كانت “بي بي سي” في كلّ ذلك نافذةً يدخل منها بعض الضوء في بلد جرَت هندسته كي يكون أشبه بقلعة ذات جدران سميكة، وداخلها يعيش شعبٌ مطلوبٌ منه ألّا تكون له مع العالم سوى علاقة سطحية.
لم تفتر العلاقة مع “إذاعة لندرة” إلّا حين أتى طوفان القنوات الفضائية، عند نهايات القرن العشرين، فلبّت قناة “الجزيرة” – خصوصاً – حاجيات كثيرة، وقد ورثت الكثير من صحافيي “بي بي سي”، ثمّ تكاثرت الإذاعات والتلفزيونات الخاصّة في تونس مع بداية الألفية لتصنع مشهداً جديداً عبر طيف اختيارات مُربك على موجة الأف أم، تاركة “لندن” وغيرها من الإذاعات في منطقة “الآ أم” وهي تدخل الظل، حتى إذا جاءت فصول الثورة التونسية صار الشأن الداخلي طاغياً، فاختنقت تلك المساحة المخصصة في حياتنا اليومية إلى “بي بي سي” بالتدريج، ولاحقاً طمرها ضجيج المزايدات السياسية والانتخابات والعلميات الإرهابية.
صادف أنّ غيّر أبي، وهو ينتقل بين الزمنين، من هواياته. لم يعد يهتمّ بالعصافير، وصار يربّي منذ عقدين تقريباً أسماك الزينة. وفي الأثناء، تبدّل كلُّ شيء في عالم الصحافة. لم يعُد هناك نظامٌ يستطيع أن يحتكر المعلومات ويوزّعها كيف شاء. بات ممكناً لكلّ شخص أن يصل إلى أي خبر عبر تصفّح سريع لهاتفه. لم تعُد الإذاعات قادرةً على متابعة النسق الطوفاني للمعلومات، فذهبت لتقديم خدمات جديدة، ترفيهية في الغالب. وإذا ما ابتغت تقديم ما هو جادّ، فهي لا تقترح غير النقاشات المتوتّرة. من الظلم أن نقارن بين الزمنَين، ومن غير المنطقي أن نقيس هذه الإذاعات على نفس السلّم مع ما قدّمته “بي بي سي” في صيغتها العربية. إنّه الفارق بين بضاعة مستنسخة وتحفة مصنوعة باليد.
ولو نظرنا إلى الأمور بموضوعية أكبر، فسنرى أنّ الأَولى هو الاستغراب من استمرار الخدمة العربية إلى أيامنا هذه، وليس انتهاءَها (تتوقّف الإذاعة اليوم الجمعة بعد 85 سنةً من إطلاقها). ليس هذا زمن ذلك الشكل الإعلامي القائم على الرصانة والأناقة. لقد ظلّت “هيئة الإذاعة البريطانية”، لسنوات، واقفةً تتأرجح بين نقيضَين: إمّا الحفاظ على هذا الإرث وتكبُّد تبعات ذلك، أو تشويه هذا النموذج عبر الاستمرار بشكل مختلف يساير العالم الجديد. أفتى العقل البراغماتي بأنّه لا موجب لـ”خدمة” الشعوب العربية صحفياً في المستقبل، وحُسم الأمر بكلّ بساطة.
ليست نهاية “بي بي سي” العربية مؤشّراً إلى نهاية بعض أشكال الإنتاج الصحفي فحسب. إنّها أيضاً مؤشّر على موجة جديدة من نهاية الإمبراطورية البريطانية التي بدأت شمسُها في الأفول منذ الحرب العالمية الثانية. كانت إذاعة “بي بي سي”، بتنوُّع ألسنتها، واحدة من تعبيرات شتّى عن الإمبراطورية. وها نحن نشهد اليوم حلقة جديدة من تفكّكها الطويل: لم تعُد يدها طويلة عسكرياً، وانكمشت سطوتُها التجارية، وانطفأ الكثير من بريق ثقافتها، فهل تبقى الصحافة وحدها عنواناً لقوّتها؟ ثم، لعلّها ليست صدفة أن تأتي نهاية الخدمة العربية (ولغات أُخرى أيضاً) بعد وقت قصير من رحيل الملكة إليزابيث الثانية، فقد أمسكت – عبر زمنها الممتدّ على العرش سبعة عقود – حبالاً كثيرة سرعان ما ارتخت حين لم تجد تلك الرمزيات التي شدّتها طويلاً.
لو نظرنا بموضوعية أكبر، لاستغربنا من استمرار الخدمة العربية إلى أيامنا، وليس من توقّفها
نظراً للشحنة النوستالجية التي تصاحبها، لم يكن ما بطَنَ من سياسات “إذاعة لندرة” تجاه المنطقة العربية موضع نقاش. لا تحظى وسائل الإعلام الفرنسية أو الأميركية بمثل هذه المحاباة. نعرف أنّ المركز لا يستثمر إلّا ليحصد في الأطراف. ولكن ما فائدة هذه الأفكار اليوم، لقد طُويت الصفحة، وإن قوى الهيمنة الثقافية باتت تشتغل عبر أدوات أُخرى، هي أُولى بأنّ نُصوّب عدسات النقد إليها.
ربما مارسَت “بي بي سي” بعض استعلاء الرجل الأبيض، أو أشرفت على مرحلة من مراحل “تربية” شعوب المنطقة على مفاهيم ستُثمر في وقت لاحق (منها الديمقراطية)، فتقلب البلدان رأساً على عقب، أو سرّبت الكثير من التقاليد الإنكليزية في فضائنا العام على حساب تقاليدنا العتيقة. فليكُن، كانت نقائصنا، نقائص أوطاننا، هي التي صنعت مجد هذه الإذاعة وعشرات الأشياء المستوردة الأُخرى. ببساطة، كنّا عاجزين على صناعتها محلّياً، فأتتنا بضاعةً جاهزة فاستهلكناها. كان هناك واقع قهريّ، ولا بد من فضاء لتنفيس المكبوت إعلامياً وسياسياً. لو لم يكن “بي بي سي” لكان أي شيء آخر.
أسألُ اليوم والدي عمّا يعنيه له توقّف الخدمة العربية لـ”بي بي سي”، فيقول: هذا أهوَن الأشياء الجميلة التي اندثرت…