وفاء شعلال التي تحدّثَت فرأيناها
لن يكون حديثُ وزيرة الثقافة عن الأزمات الاقتصادية وغلاء المعيشة سوى خطيئة لا تُغتَفر من منظور السُّلطة التي لا تُقيل وزراءها الفاشلين لأنُّهم فاشلون، لكنّها لا تتردّد في إبعادهم حين يتّضح أنّهُم يحفظون خطاباتها عن ظهر قلب دون الحدّ الأدنى من الفهْم.

خلال الأشهر الأُولى من تعيينها الغريب وزيرةً للثقافة في جوان 2021، بدت وفاء شعلال مقلّةً في ظهورها على وسائل الإعلام. وسواء كان ذلك خياراً مدروساً لتجنُّب الجدالات والإيحاء بالانشغال بما هو أهمُّ من الظهور الإعلامي، أو حلّاً فرضته حقيقةُ أنْ ليس لديها ما تقوله عن قطاعها، فقد جعلها ذلك بمنأىً عن الانتقادات التي تُطاوِل، في العادة، الأكثرَ ظهوراً وثرثرة.
لاحقاً، سنكتشف أنَّ شعلال ليست زاهدةً ولا ناسكة، وأنّها لا تختلف عن غيرها في شي. كلُّ ما في الأمر – على ما يبدو – أنّها انشغلت، في أشهُرها الأُولى، بترتيب بيتها الداخلي وتصفية تركة سابقتها، حتى وإنْ كانت هذه التركةُ بضعَ صُوَر لمليكة بن دودة ستطلُب مِن موظّفيها إزالتها من صفحة الوزارة في فيسبوك. وبعد ذلك، لن تُوفّر مناسبةً صغيرة أو كبيرة لتُطلّ علينا بالصوت والصورة.
تحدّثت الوزيرةُ فأصبحت مرئيةً. أصبح واضحاً أنّها لا تملك ما تقوله عن قطاعها لأنّها لا تعرف الكثير عنه، والأهمّ؛ أنْ ليس لديها ما تُقدّمه له. وهذه البطالة مدفوعةُ الأجر، والتي ظلّت شعلال تستمتع بها طيلة ثمانية أشهر، هي ما سيُمكّنُها من تمديد إقامتها في مصر، بعد انتهاء زيارة الرئيس عبد المجيد تبّون والوفد المرافق، والتي استمرّت يومَين (الرابع والعشرون والخامس والعشرون من يناير الماضي).
تزامنَت زيارة تبّون إلى القاهرة مع احتضانِ الأخيرة فعاليات الدورة الثالثة والخمسين مِن معرضها الدولي للكتاب، والتي اختيرت اليونان ضيفَ شرفٍ فيها. لكنّ وفاء شعلال ستَظهر في الصفوف الأُولى وستتحدّث إلى وسائل الإعلام المصرية أكثر ممّا سيفعل وزيرُ الثقافة اليونانيّ نفسُه.
لم يكُن تمديدُ إقامة شعلال في مصرَ مِن بنات أفكارها؛ إذْ ستُخبرنا – في حوارٍ تلفزيوني أجرته مع قناة مصرية خاصّة – أنَّ تبّون نفسُه هو من طلب منها ذلك “حرصاً على توطيد علاقات البلدَين وبناء جسر ثقافي بينهما”. لكنَّ هذا التمديد سيتركُ انطباعاً بأنْ ليس للوزيرة ما تفعله في بلادها. وفي المحصّلة، بدت الجزائرُ الرسميةُ ضيفاً موازياً وثقيلاً على معرض القاهرة للكتاب.
في الحوار التلفزيوني الذي استمرَّ قرابة نصف ساعة، جلسَت وفاء شعلال قُبالةَ مذيعة متواضعة من الواضح أنّها لا تعرف عن الجزائر ومشهدها الثقافي شيئاً؛ إذ اكتفت بطرح أسئلة عامّة يمكن أن تُطرَح على أيّ كان. لكنّ معظم أجوبة الوزيرة ستأتي خاطئةً من منظور الثقافة، وبحسابات السياسة.
كانت اليونان ضيف شرف “معرض القاهرة”، لكنّ شعلال ظهرت أكثر من وزير الثقافة اليوناني
بدت الوزيرةُ وكأنّها تقرأ خطاباً ركيكاً مكتوباً على ورقة أمامها أو تستحضر درساً ينتمي إلى زمن غير زمننا وهي تتحدّث عن “العولمة” و”الغزو الثقافي” الذي يُهدِّد المجتمعات العربية التي أصبحت “مستهلِكة لمحتويات ثقافية لا تخدم قيَمها وخصوصياتها ومصالحها”، مقترِحةً “تظافُر الجهود العربية للنهوض بصناعة ثقافية حقيقية تُحقّق الأمن الثقافي العربي، لأنّنا نُواجه غزواً ثقافياً غربيّاً يُضعف مناعتنا ومناعة أبنائنا وبناتنا في ظلّ التأثيرات الدخيلة علينا”، قبل أن تُبالغ قليلاً باقتراح “الترويج للتراث المشتَرك للبلدان العربية وإنجاز أعمال مشتركة في السينما والتراث والترجمة لنقل ثقافاتنا إلى الآخر، وفرضها على العالَم الغربي”.
على طرافتها، يُمكن مناقشة فكرة “فرض” ثقافةٍ ما على “العالَم الغربي”. لكنَّ الأهمَّ منها الإشارةُ إلى أنّ شعلال لم تتحدّث، هنا، بوصفها وزيرة للثقافة الجزائرية، بل كوصيّة على”الأمن الثقافي” العربي و”الوحدة العربية”، أو ربمّا بوصفها وزيرةً للثقافة في دولة عربية متّحدة متخيَّلة؛ فقد وضعَت جميعَ بلدان المنطقة – باختلافاتها وتناقضاتها – في سلّة واحدة، وكأنَّ السياسات والتوجُّهات والخيارات الثقافية لبلدٍ خليجيّ مثلاً هي نفسُها سياساتُ وتوجُّهات وخياراتُ بلد في الشام أو آخر في المغرب العربي.
ثُمّ، وفي غمرة حماستها للخوض في مسألة “الأمن الثقافي” العربي، تتذكَّر وفاء شعلال أنّها وزيرة الثقافة الجزائرية، فتُشير إلى أنّ بلادها تعتمد، بتوجيهٍ من الرئيس، مقاربةً جديدة للثقافة تقوم على الاقتصاد، وتتلخّص في “تعزيز صناعة ثقافية بمقومات وطنية”، قبل أن تتحدّث عن اهتمام الجزائر بـ”ترويج تراثها والتسويق لثقافتها”. ولعلّها، بذلك، تُذكّرنا بأنّنا – وعلى خلاف غيرنا مِن بلدان العالَم – “نُروّج لتراثنا” و”نسوّق لثقافتنا” بالحديث عن “الترويج للتراث” و”التسويق للثقافة”. عدا ذلك، نغيبُ عن العالَم شرقه وغربه لدرجة أنّ مراكزنا الثقافية في الخارج خاملةٌ أو مغلقةٌ تماماً.. كما في القاهرة نفسها، وأننّا نُشارك في معرض للكتاب في بلد عربي بأجنحة فارغة، ونعزل أنفسنا عن العالَم شرقه وغربه لدرجة أنَّ كتاباً يصدر في تونس أو القاهرة أو بيروت أو باريس أو لندن لا يصل إلينا إلّا في “المعرض الدولي للكتاب”.
ربّما علينا أن نكون أكثر تواضُعاً فنعترف بأنّنا لن نقود أيّة قاطرة إلّا إن كانت تسير باتجاه عكسي
مع ذلك، ستكون الوزيرةُ متفائلةً جدّاً وهي تُعبّر عن تطلُّعها إلى أنْ “تكون الجزائر ومصر القاطرةَ التي تقود الثقافة العربية”.
تسأل المذيعةُ عن تأثُّر المقروئية بجائحة كورونا، فتُجيب الوزيرةُ بأنَّ “المقروئية في مصر أو الجزائر تأثّرت بالوباء، وأيضاً بالأزمات الاقتصادية؛ فالقارئ لا يستطيع شراء الكتاب الذي لم يعُد مِن أولويات المواطن المصري أو الجزائري في ظلّ التحوُّلات الاقتصادية والغلاء المعيشي، إذ أصبح همّه الوحيد تأمين احتياجاته اليومية”. على المستوى الثقافي، تكتفي شعلال بالكلام المرسَل وهي تُشخّص واقع المقروئية في بلادها؛ إذ لا تستند إلى أيّة دراسات أو استطلاعات أجرتها وزارتُها أو أيّةُ هيئة رسمية أو مستقلّة حول تأثير الجائحة أو الوضع الاقتصادي على المقروئية، ثُمّ – ومُجدَّداً – تضع بلدَين مختلفَين تماماً في سلّة واحدة.
تتحدّث الوزيرةُ عن بلدٍ مختلف تماماً من ناحية الإنتاج والتلقّي الثقافيَّين؛ بلدٍ يكتظّ بالمؤسَّسات الثقافية الرسمية (المجلس الأعلى للثقافة، والهيئة العامّة لقصور الثقافة، والهيئة المصرية العامة للكتاب، والمركز القومي للترجمة، والمركز القومي لثقافة الطفل، والجهاز القومي للتنسيق الحضاري… إلخ) والمستقلّة التي لا تُعدّ، وتضعه على صعيد مع بلدٍ يكتظّ بالخواء. ربّما علينا أن نكون أكثر تواضُعاً فنعترف بأنّنا لن نقود أيّة قاطرة إلّا إن كانت تسير باتجاه عكسي، وبأنّه لا يحقُّ لنا تقديم دروسٍ حول ما ينبغي على بلدان عربية أُخرى أن تفعله في مجال الثقافة.
أمّا على المستوى السياسي، فلن يكون حديثُ شعلال عن الأزمات الاقتصادية وغلاء المعيشة، من منظور السُّلطة، سوى خطيئة لا تُغتَفر، خصوصاً حين تُضيف ثانيةً وهي تعترف: “نحنُ غير قادرين على صناعة محتوى في مستوى تطلُّعات شبابنا ويجاري التطوُّرات الحاصلة في العالَم”، وثالثةً حين تقول وهي تقهقه: “نحنُ نفكّر بالفرنسية ونُعبّر بالعربية”. لا تُقيل السُلطةَ وزراءها الفاشلين لأنُّهم فاشلون، لكنّها لا تتردّد في إبعادهم حين يتّضح أنّهُم يحفظون خطاباتها عن ظهر قلب دون الحدّ الأدنى من الفهْم.

كاتب وصحافي جزائري ومؤسّس موقع “رحبة”. من مواليد 1983. بدأ الكتابة الصحافية مدوّناً في 2005، قبل أن يعمل في عددٍ من المؤسّسات الصحافية الجزائرية والعربية، بين الصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون. صدرت له مجموعة قصصية في 2008، ورواية في 2013.