وليد أحمد الفرشيشي: لا يدخلُنّ كلاسيكي واحد إلى “أركاديا”!

بضعة أشهر كانت كافية لتأخذ دار النشر "أركاديا" مكانها تحت الضوء في الساحة الثقافية التونسية، عبر النصوص السردية أساساً، وعبر مروحة من أسماء بدت منسجمة بسرعة مع فضاء النشر الجديد. عن مغامرة إطلاقها تحدّث مؤسسها وليد أحمد الفرشيشي إلى "رحبة".

وليد أحمد الفرشيشي: لا يدخلُنّ كلاسيكي واحد إلى “أركاديا”!
وليد أحمد الفرشيشي

مع إطلاقه، منذ بضعة أشهر، لدار نشر اختار لها من الأسماء “أركاديا”، يضيف وليد أحمد الفرشيشي صفة جديدة، بعد تجاربه كشاعر وككاتب قصة وراوية وكمترجم، ولعل جميع هذه الروافد قد صبّت في ذات البحر حين قرّر اقتحام تجربة النشر.

بضعة أشهر كانت كافية لتأخذ “أركاديا” مكانها تحت الضوء، عبر النصوص السردية أساساً، وعبر مروحة من الأسماء التونسية التي تبدو وقد وجدت في مشروع الفرشيشي أرض مقام دافئة ومريحة (صلاح البرقاوي، عبد الجبار العش، سفيان رجب، توفيق بن بريك…).

ربما استفادت “أركاديا” لأخذ موقعها سريعاً من تباطؤ الإصدارات في بقية دور النشر في تونس، وكأن وباء الكوفيد ما يزال متواصلاً فيها. وقد لا يكون في الأمر سر غير الشغف بالكتاب  واستناد “أركاديا” إلى طموحات صريحة، وهو ما نلمسه في هذا الحوار حيث تحدّث وليد أحمد الفرشيشي إلى موقع “رحبة” عن مغامرته في الأرض التي اخترعها، ويقرأ من موقعه الجديد مشهد صناعة الكتاب في العالم العربي.

 

انطلقتَ مؤخراً في تجربة دار نشر. ما وجاهة هذه الخطوة في ظل واقع تونسي لا يبدو مُشجّعاً على إطلاق المشاريع، سواء من منظور اقتصادي أو من منظور ثقافي؟

في واقع الأمر، تظافرت العديد من العوامل في توجيه بوصلتي نحو قطاع النشر تحديداً، ولعلّ أبرزها هو الرغبة في مقاومة حالة الخمول الثقافي التي تعيشها تونس في السنوات الأخيرة. صحيح أنّ المناخ العامّ لا يشجّع على الاستثمار، لكن بصفتي دارساً للاقتصاد وباحثاً فيه، أعرف جيّداً أنّ أوقات الأزمات قد تمنحك فرصاً حقيقية، وأنا أرى أنّ إطلاق أركاديا في هذا الوقت تحديداً يأتي في إطار محاولة شخصيّة لملء الفراغ لا في تونس فقط وإنما في العالم العربي. ههنا، ينبغي أن أشير إلى أن أركاديا لا تستهدف السوق التونسية فحسب وإنما السوقين المغاربية والعربيّة. والحقّ أنّ التجربة الآن تعدُّ واعدة جدّا لا سيّما أن الدار تعوّل فقط، في هذه المرحلة، على مبيعات السوق وحدها.

 

لو تصف لنا الجميل والممتع في مهنة النشر انطلاقاً من تجربتك الجديدة..

أجمل ما في هذه التجربة إلى حدّ الآن هو أنّي بصدد تطبيق رؤيتي الشخصيّة للأدب. وشعار الدار يفضحُ تماماً طريقتي في التفكير، فعندما أقول إنّه لن يدخلنّ علينا كلاسيكيّ واحد، فأنا أعي تماماً ما أقول. ولعلّ اختيارات الدار سواءً في الروايات أو في الأعمال المترجمة تكشفُ عن رغبتي في “تثوير” الأدب التونسي ودفعه إلى التمرّد على أنماط الكتابة الكلاسيكية/ المدرسية والانفتاح على عوالم بل وموجات الكتابة الحديثة والحداثيّة سواء في العالم العربي أو في الغرب. وأعترف بهذا الخصوص بأنّي مفتون بتجارب جيل الكتاب الجديد في أمريكا اللاتينية. وهذا ما نحاول قدر الإمكان ترجمته عند اختيارنا للأعمال الروائية التي ترد علينا أو للأعمال التي نخطط لترجمتها.

 

قبل صفة الناشر، أنت كاتب وشاعر ومترجم. هل يمكن القول أن بعضا من خيبات هؤلاء مع الناشرين هي من بين العوامل التي تؤدّي بأصحابها إلى تجربة إطلاق دار نشر؟

– لطالما كانت علاقاتي مع دور النشر المحليّة أو العربيّة جيدة. بصفتي شاعراً مترجماً روائيّاً لم أجد صعوبةً في التعامل مع أهم دور النشر وأخص بالذكر منها “المتوسط” و”ذات السلاسل” و”مسكلياني” و”جدل” و”صفحة 7″. على أنّ سلوك ناشر تونسيّ دفعني فعلاً إلى تأسيس هذه الدار، لأنّي أتمثّل النشر بوصفه فعل مقاومة حقيقيّ لا بوصفه تجارة مربحة.

 

يقودنا الحديث عن “الخيبات الثقافية” إلى اسم دار النشر التي اخترتها؛ أركاديا بما هي أرض للسعادة والتناغم، تفترض غياب حزازيات ومشاحنات بين سكّانها. أجد في ذلك قراءة معكوسة (إن لم نقل ساخرة) للساحة الثقافية في تونس. هل كان ذلك مقصوداً؟

نعم وزد على ذلك فأركاديا هي أرضُ مقاومة كما وصفها هيرودوت. لقد نأيت بنفسي منذ فترة طويلة عن الساحة المحليّة وتوجهتُ نحو العالم العربيّ، حتّى إنّي بت أرفض تماماً حضور الندوات واللقاءات التي أدعى إليها. فعلاً، أرفض حضور الحفلات التنكرية ولهذا ابتكرتُ شعار “لن يدخلن علينا كلاسيكيّ واحد”. كتاب الدار منفلتون ومجانين وهم على شاكلتي يذهبون إلى الكتابة كما يذهب ماتادور إلى نزال ثورٍ هائج.

 

معظم التوقعات حول مشاريع النشر متشائمة، ورغم ذلك لا تزال تُطلق دور النشر في مختلف البلدان العربية بشكل متواتر، وهناك موجة من دور النشر الجديدة في كثير من البلدان العربية خلال السنوات الأخيرة، سنوات كورونا وتراجع القدرة الشرائية والعزوف عن القراءة. ما الذي يغري هؤلاء في إطلاق دُورهم رغم التوقعات المتشائمة؟

في اعتقادي الشخصيّ، أرى في هذا علامة صحيّة تحبطُ كلّ التوقعات المتشائمة. فطالما ثمّة قرّاء، ثمّة نشر. على أن الناشر الذي لا يرضخ لسنّة التطور ولا يقبل على ما توفره التكنولوجيات الحديثة من آليات تسويق ولا ينوع من إصداراته بل، وقبل كلّ هذا، لا ينطلق من عقيدة فكريّة واضحة، سيحكم عليه بالمغادرة آجلاً أو عاجلاً. انظر مثلاً إلى شعار دار المتوسط “معا لنحارب طواحين الهواء”، فهذه الدار تأسست على فسلفة واضحة، يمكن للمرء أن يشتفها بوضوحٍ من خلال ما تنشره من أعمال، وهذا ما يوفر الديمومة للناشر ويوسع من قاعدة قرائه. أما المشاريع المبنية على السعي إلى الربح السريع والفهلوة والتعامل مع الكتّاب بوصفهم آلة لدرّ الأموال، فهي محكوم عليها بالفشل ولو بعد حين.

غلاف ضحكة الحوت

هناك سوء فهم بين تطلعات الكتاب وحسابات الناشرين كثيرا ما يؤديّ إلى ما نعرف من اختلافات بين هؤلاء وهؤلاء. أنت تنتمي الآن إلى الطرفين، كيف تحقق توازناً بين هذا وذاك في أركاديا؟

لا سرّ في الأمر. إذا احترمت الكاتب فوفرتَ له عقداً محترماً وأشرفت على صناعة كتابه من لحظة استلام المخطوط ومراجعته وتحريره انتهاء بطبعه وتسويقه، لا يمكن للنتيجة النهائية إلا أن تكون مرضية للطرفين. على أنّي أختارُ جيّداً كتّاب الدار ومترجميها، فليس كلّ ما يعرض على الدار ينشر، بل يحدث أحياناً أن أكون أنا من يذهب إلى صاحب النصّ.

 

النشر مجال مفتوح، يمكن أن يأتيه البعض من الكتابة والبعض الآخر من موقع الخبرة المهنية في أيّ من مواقع صناعة الكتاب، كما يمكن دخوله من الرهان المادي وحده. من منظورك ماهو اللون الغالب على شريحة الناشرين في تونس، وهل لذلك أثر على ما يصدر من كتب في تونس؟

في تونس هناك صنفان من الناشرين: من يحترم مهنته ومن يتعامل معها كأنها كشك سجائر. وفي واقع الأمر، لا أعرف ناشرين كثر جاؤوا من موقع الكتابة، ولهذا يصعب عليّ أن أجيب على هذا السؤال. ما هو مؤكد أنّ السوق المحليّة تمتلئ بعناوين كثيرة كان وراءها الرهان المادي وحده وهو ما دفع بالقراء إلى البحث عن مشاريع ثقافية أخرى تحت سماوات ثقافية أخرى. أنا نفسي كنت أرفض التعامل مع دور النشر التونسية وفضلت دور النشر العربية، خاصة تلك التي تحمل مشاريع ثقافيّة حقيقية.

 

يكاد يوجد اتفاق على جودة المنتج التونسي الإبداعي، أدباً وبحثاً، يقابله اتفاق على عدم الاستفادة من ذلك اقتصاديا عبر منظومة النشر. برأيك، لماذا يعجز قطاع الكتاب التونسي على استثمار جودة التأليف برأيك؟

أسباب العجز كثيرة، وأولها غياب ما أسميه بالصناعات الثقافية الثقيلة. فقد تراجع دور الدولة في الاستثمار في قطاع النشر، بل ونكاد نشهدُ انقطاعا في العملية التواصلية بين وزارة الشؤون الثقافية وبين الناشرين التونسيين. وزد على ذلك، فمشاريع النشر في تونس هي مشاريع فرديّة مرابطة عند محليّتها ولا تسعى إلّا في ما ندر إلى الأسواق الخارجيّة.

 

كثيرا ما تقف علاقة الكتاب بالصحافة عند إعلان صدور كتاب. كيف وجدت تلقي الصحافة للأعمال الأولى للدار، وما الذي تنتظر منها؟

لا تنس أنّي بدأت حياتي المهنية صحافيّاً، ولذلك ربّما أعي أكثر من غيري خطورة الصحافة والصحافيين، بل إنّ وسائل الإعلام، قديمها وجديدها، تعدّ لبنة هامة في تسويق أعمال الدار، والحق أن النتيجة أكثر من مرضيّة إلى حدّ الآن.

 

تظهر في السنوات الأخيرة أشكال تواصل جديدة لترويج الكتب. هل تقر بنجاعتها أم ترى سلبياتها أكبر؟

نعيش اليوم ثورة الأنفوميديا بل وثورات “الديجيتال” ومجموعات القراءة على مواقع التواصل الافتراضية، وهي وسائل ناجعة جدّا في ترويج أيّ كتاب، والحقّ أن “أركاديا” استفادت منذ انطلاقتها من هذه الوسائل، حتى إنّي أعمد أحياناً إلى استشارة بعض الشباب المؤثرين في إصدارات بعينها. صناعة الكتاب يجب أن تنفتح على كلّ ما تعرضه التكنولوجيا عليها وإن كنت أقرّ أننا في تونس مازلنا متأخرين جدّا مقارنة بالإخوة في الخليج العربيّ.

 

هل تتدخل منطلقاتك كقارئ وككاتب في تحديد أسعار إصدارت “أركاديا”، أم هي مسألة موكولة للعقلانية الإدارية والاقتصادية؟

أجمع بين الأمرين في واقع الأمر، فتكلفة الطباعة باهظة في تونس وزد على ذلك هوسي بأن يكون إخراج كتب الدار أنيقاً، تحريراً وتصميماً، وهو ما يرفع من تكلفة الكتاب، في مقابل ذلك، ثمة تراجع بيّن في قدرة القارئ الشرائية، وهذا أمر لا أستطيع أن أغفله، ولذلك أحدد الأسعار بناء على جملة هذه العوامل. وفي كلّ الأحوال، ما هو مؤكد هو أني أضع نفسي دوماً موضع القارئ.

 

منذ إصداراتها الأولى، يظهر التفات للترجمة في أركاديا. برأيك، ما هو الأكثر أولوية للترجمة إلى العربية اليوم من منظور دار نشر في بداياتها؟

ينبغي أن تمنح الأولويّة في اعتقادي إلى التجارب الروائية الحديثة وإلى الكتب الفكريّة. وكما قلت لك منذ البداية، ما يحركني هو تمثّل خاص للأدب خاصة وللفكر عموماً، وهو ما يجعلني أميل نحو ترجمات بعينيها. خذ عندك مثلاً ترجمة كتاب “ضحكة الحوت” لتوفيق بن بريك، فهذا العمل تحديداً يعدُّ ردة فعل شخصية تجاه تراجع منسوب الحرّيات في تونس واستهداف المنظومة الديمقراطية فيها. فعندما قررت إصدار هذا الكتاب، وكنت قد ترجمته منذ خمس سنوات، كنت أفكر في أمرٍ واحد وهو كيف أحذّر هذا الجيل من مغبّة التفريط في كلّ مكتسبات الثورة التونسية. علما أن الكتاب نفسه صدر في العام 2000 وكان وثيقة إدانة حقيقية لنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. كما نستعد أيضاً إلى إصدار ترجمات في حقول الفلسفة الاقتصادية وعلوم الإناسة وغيرها. هذا هو المشروع الذي تأسست بموجبه أركاديا. شخصيا لا أريد أن أكون مجرّد رقم ينضاف إلى سلسلة طويلة من الناشرين التونسيين والعرب.

 

أغلفة أركاديا على أي عين تراهن؟ بعبارة أخرى، هل تؤمن أن الغلاف يستطيع أن يأتي بقارئ جديد، قد لا يكون على معرفة بالكاتب مثلاً؟

لإصدارات أركاديا ثلاث هويّات بصريّة، واحدة خاصة بالترجمات والثانية بالروايات والثالثة بالكتب الفكرية. وبهذا الخصوص، أنا أعوّل على أهمّ مصمّمي الكتب في تونس، لأني أؤمن أن الغلاف هو عتبة من عتبات أيّ نص مثلما أؤمن بأهمية الجماليات في صناعة أي كتاب.

 

لو تتخيّل كيف ستكون “أركاديا” حين تبلغ كتابها المئة، أو لنقُل الألف… من هو قارئها؟ من هم كُتّابها؟ من هو وليد أحمد الفرشيشي وقتها؟

هذا سؤال مخيف ومنطقيّ في الآن نفسه. على كلّ أرى أركاديا في المستقبل داراً تقدّم أدباً مختلفا لعموم القراء من المحيط إلى الخليج، وتراهن على الكتّاب أصحاب المشاريع الحقيقيّة. أمّا عن وليد أحمد الفرشيشي فلستُ أراه إلاّ في هذا الدور: روائيّ يحمل جينات شاعر، وناشر يحمل جينات تنين!

كاتب صحافي وباحث من تونس، مقيم في فرنسا حالياً. يعمل منذ 2015 محرّراً في صحيفة “العربي الجديد”.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة