
تغلق الحرب الروسية في أوكرانيا، اليوم الجمعة، يومَها المئة. فترة زمنية تغيّرت فيها معالم البلاد بشكل حاد وفاجع، ومعها تغيّرت الكثير من العلاقات الجيوسياسية والاقتصادية في العالم، خصوصاً بين روسيا وجيرانها الأوروبيين، كما لامست الحربُ التمثلات الثقافية وبدا أن الأدب والفن ليسا غير امتداد لكواليس السياسة أو ممارسة لها بوسائل أخرى، لنقف في كثير من الأحيان على وصم كل ما هو روسي بما يقترفه جنود فلاديمير بوتين.
عن الحرب الثقافية الموازية يحدّثنا المترجم المصري يوسف نبيل (1987)، وهو الذي خبر الثقافة الروسية من خلال ترجمات كثيرة ربطت القارئ العربي بعوالم فنية وفكرية فضاؤها نفس الأماكن التي تدور فيها الحرب اليوم من موسكو إلى أوديسا.
من ترجمات نبيل نذكر: “صبي مع المسيح عند شجرة عيد الميلاد” لـ فيودور دوستويفسكي، و”طريق الحياة” لـ ليف تولستوي، و”الحرس الأبيض” لـ ميخائيل بولغاكوف، و”حكايات من أوديسا” لـ إسحاق بابل، و”يوميات تولستوي” في ستة أجزاء.
منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، انطلقت موجةٌ شيطنةٌ في الغرب لروسيا، وقد انسحب ذلك على الفنون والآداب. كيف تجد هذه الموجة التي طالت أسماء كُبرى؛ مثل دوستويفسكي وتشايكوفسكي، ولم تسلم منها أُمم نعتقد أنّها في قمّة تقدير الفن كإيطاليا؟
في ظنّي، تُشير هذه الأفعال الصبيانية إلى الهزيمة الأوروبية الكاملة لصالح أميركا. فقد تعوَّدنا على هذه الشيطنة منذ عقود في أفلام هوليوود،والأمرُ مستمرٌّ حتى الآن؛ حيث يظهرالروسيُّ دائماً في صورة مجرم عنيف، مدمن على الفودكا، يرتكب مستويات غير مسبوقة من العنف، وما إلى ذلك من كلّ هذه الصور النمطية. أزمةُ الحرب الأخيرة أبرزت السيطرة الأميركية الكاملة على أوروبا،كما أبرزت مدى الهشاشة التي وصلت إليها مؤسَّسات غربية عريقة.
في الحقيقة، يعيش الغرب، بصورة عامّة، مرحلةً مِن أسوأ مراحله؛ حيث برزت مشكلات الرأسمالية بصورة فجّة. هنا، لا أُشير إلى أيّة مقارنة بين الشرق والغرب، أو بين روسيا والغرب، لأنّ مثل هذه المقارنة – خصوصاً الأُولى – غير واردة مِن الأساس. لكنّني أتحدّث هنا عن التغييرات المتسارعة التي حدثت في دول أوروبا. يجب أن نشير إلى أنّ مثل هذه القرارات الصبيانية يتّخذها في الغالب السياسيون، وقد سمح النظام الغربي السائد بوصول بعض المهووسين ومحدودي التفكير والعجائز الذين يعاني بعضهم من أمراض الشيخوخة إلى أعلى المناصب،وتقلّصت، بصورة واضحة، قدرة المواطن العادي على التأثير.
لكن، وحسب رأيي الشخصي، فإنَّ مثل هذه القرارات لن تُؤثّر على المستوى البعيد بأدنى درجة على انتشار الفن والأدب الروسيَّين، لأنهما، في النهاية، يُشكّلان ظاهرةً عالمية لا يمكن حجبها تبعاً لموقف سياسي أو ما شابه.
عادةً ما يتمظهر العداء، أو لنقُل الحساسياتُ الثقافية والسياسية، بين بلدَين في أدبيهما. هل يُوجد ذلك في أدب كلٍّ من روسيا وأوكرانيا؟
بدرجة كبيرة لا. العلاقة بين روسيا وأوكرانيا ليست علاقةً عادية بين بلدَين. علينا أن نضع في الاعتبار عمق الروابط التاريخية والثقافية والحضارية بينهما.نشأَت الإمارة الروسية الأُولى في كييف قبل اثنتي عشر قرناً، وامتدّت شرقاً حتى وصلت إلى إمارة موسكو. نشأت الثقافتان الروسية والأوكرانية المبكرة تحت تأثير الروافد الثقافية عينها، والمتمثّلة في الحضارة البيزنطيةوالكنيسة الأرثوذكسية والتراث الثقافي اليوناني الروماني القديم.
لا يقتصر الأمر، إذن، على وحدة اللغة على مدار أعوام طويلة، بل يشمل ما هو أعمق مِن ذلك. في دراسة الأدب الروسي، لا يُفرّق أحدٌ بين أدباء أوكرانيا وأدباء روسيا،ولا يمكن أن يظهر هذا التقسيم. لا يُمكننا، مثلاً، أنْ نقول إن غوغول أو بولغاكوف أو إسحاق بابل ليسوا كتّاباً روسيّين بسبب أصلهم الأوكراني؛ بل على العكس، عبّر كلٌّ منهم عن صوت روسي أصيل تماماً.
تمتلئ الروايات الروسية في كثير من الأحيان بمفردات أوكرانية، ويمكن أن نقول إنّ أكبر الأدباء الذين نشأوا في أوكرانيا يكتبون بالروسية. لظروف تاريخية واقتصادية واجتماعية عديدة، تتّسم هذه المنطقة السلافية بخصوصيةٍ تجعل مثل هذه التقسيمات اعتباطيةً إلى حدّ كبير.
من خلال اطّلاعك على المشهد الروسي، هل ثمَّةَ نخبةٌ ثقافية وأدبية تدعم خطاب بوتين وتوجُّهاته؟
أظن، بحسب معلوماتي، أنّ مُعظم النخبة الأدبية والثقافية تعارض الحرب على أوكرانيا.بعضُ الكتّاب الروس أعلنوا ذلك صراحة،لكن علينا أن نضع في الاعتبار أمرَين:الأوّلُ هو المساحة الضيقة جدّاً المتاحة لمثل هؤلاء الكتّاب لإحداث حَراك مجتمعي حقيقي مُعارِض لبوتين أو للحرب،والأمرُ الآخر هو أنّ التهديد الذي تتعرّض له روسيا مِن أمريكا وفكرةَ اشتراك أوكرانيا في حلف الناتو ليس مجرّد ادعاء من جانب بوتين، بل هو تهديد حقيقي. على مدار عقود طويلة وأميركا تحاصر روسيا بكل ما أُوتيت من قوّة. يمكننا أن نتذكّر أزمة صواريخ كوبا حينما وَضعت روسيا صواريخ في كوبا بالقرب من أميركا، وكاد الأمر أن ينتهي بحرب نووية بين البلدين. يجب وضع الأمر، إذن، داخل نطاقه.
معارضو بوتين ليسوا من الدوائر الأدبية، وهُم ليسوا مساندين للسياسات الأميركية بالضرورة. هناك بالطبع دوائر أُخرى تساند بوتين وقراره، لكن في كلّ الأحوال، الأمرُ معقَّد بسبب معارضة فكرة الحرب من جهة، والتهديد الحقيقي الذي تتعرّض إليه الدولة الروسية من جهة أُخرى.