ألمٌ شهري ونساء متضامنات
يُصبح تبادُل الخبرات والتجارب وجهاً مِن أوجُه التضامُن النسائي الذي قد تقوم به النساء مِن دون وعي بقيمته وأثره، لكنّه يمنح شعوراً بالقوّة والأمان والراحة. يحتاج الأمرُ فقط أن تقول النساء إنّهن في أيام دورتها الشهرية وإنهُنّ يعانين من آلامها، فهل يفعلن؟

في الثامن مِن مارس/ آذار، اليوم العالمي للمرأة، تمتلئ مواقع التواصل بالتهاني والتعليقات والنُّكَت أيضاً، وتصلُُني أُمنيات لطيفة مِن الأصدقاء والزملاء، فيجعلُني ذلك أنتبه أكثر لأنوثتي، ولو أنَّ جسمي، الذي لا يخلف موعده الشهري، لا يُقصِّر في تذكيري إن حدَثَ وتناسيت. في كُلِّ دورة شهرية تذكير بالأنوثة.
الدورةُ الشهرية بِلغة البيولوجيا تغيُّرات طبيعية تطرأ على الرحم والمبيض كمقدّمات للإخصاب، تظلُّ تُرافق النساء طالما لم يبلُغن “سنّ اليأس”. وهي برومانسيّة اللغة وغضبها قدرُ معظم جنس النساء الذي لا مهرب منه، ولا يُخفِّف وطأتَه غيرُ التضامن.
اختلفت النظرة إلى دم الطمث على مرّ التاريخ بشكلٍ حادّ، بين اعتباره رمزاً للسلطة الأنثوية وتمييزاً لصالح الإناث، وبين النظر إليه كقذارة. ولعلَّ كلمات العالم الروماني بلينيوس الأكبر (عاش في القرن الأوّل الميلادي) مِن أفظع ما قد نقرأه في وصف أثره: “إذا ما مسَّ دمُ الحيض الخمرَ الجديدة باتت حامضةً، وإذا لامس المحاصيل ذبلت، والطعوم ماتت، والبذور في الحدائق جفّت، والثمار عن أشجارها وقعت، والحديد فقد حدّته، والعاج بهت بريقُه، وخلايا النحل ماتت… وغشت الجوَّ رائحة فظيعة”.
لا تُغادر فكرةُ القذارة هذه الكثيرين، ومنهُنَّ نساء؛ فمشاعُرنا تجاه الدورة الشهرية مختلطة ومتناقضة، تتراوَح بين تقبُّل دمها والافتخار به كجزء طبيعي مِن الأنوثة أو وعد بأمومة مستقبلية، وبين الشعور بالعار والقرف أو حتّى الرفض الغاضب. وهذه المشاعر السلبية، في جانب كبير منها، هي نتاجُ أمرَين: آلام الطمث ونظرةُ المحيطِين بنا.
ثمّةَ الكثير مِن الحلول التي تكتسبها النساء ويتشاركنها ويُورّثنها، وهي بمثابة أساسياتٍ في التعامُل مع هذا الزائر الشهري المزعِج. هكذا يُصبح تبادُل الخبرات والتجارب وجهاً مِن أوجُه التضامُن النسائي، وهو في حدّ ذاته من مُسكّنات الألم ومِن أشكال الدعم النفسي. قد تقوم به النساء مِن دون وعي بقيمته وأثره، لكنّه يمنح شعوراً بالقوّة والأمان والراحة. يحتاج الأمرُ فقط أن تقول النساء إنّهن في أيام دورتهنَّ وإنهُنّ يعانين من آلامها، فهل يفعلن؟
شخصياً، لا أجد حرجاً في التحدُّث عن الأمر؛ فقد أدركتُ بالتجربة الأثرَ الإيجابيَّ لمشاركته على حالتي وعلى تفهُّم الآخرين ضعفَ أدائي أو تعكُّر مزاجي. حين تكون الآلام شديدة، أُخبر صديقاتي أو والدتي أو أُختي أو زميلاتي، فيَخلق تضامنُهُنَّ، بالقول والفعل، شعوراً بالراحة لديّ، بل إنَّ مجرَّد مشاركة التجربة يَجعلني أتخفُّف من ألمها بعض الشيء.
لا أجد حرجاً في التحدُّث عن التجربة؛ فقد أدركتُ الأثرَ الإيجابيَّ لمشاركتها مع الآخرين
وفي العمل، لا تتردّد زميلتاي في إخبار المديرة في حال عدم قدرتهما على العمل في أوّل أيام الدورة. ورغم تكرار التجربة كلّ شهر، نتشارك حلولنا لتخفيف الألم ونتبادل، في محادثاتنا الإلكترونية، عبارات الدعم والرموز التعبيرية في شكل قلوب وأحضان ووجوه حزينة.
تجمعُ تجربة الدورة الشهرية معظم النساء، لكنّها تختلف من امرأة إلى أُخرى. يُمكننا أن نلمس هذا التبايُن في التجارُب والمشاعر، مثلاً، في مجموعة “مجتمع النساء الخارقات” على فيسبوك، وهي مبادرةٌ نسوية توعوية تهدف إلى “تمكين المرأة”، وتتطلّع إلى “تأسيس مجتمع آمن وخالٍ من الأحكام، وقائم على تقبُّل الآخر وعلى المساواة في الحقوق والواجبات”.
في “مجتمع النساء الخارقات”، تُحارِب المشاركات الأفكار المسبَقة والنمطية عن كلّ التجارب الأنثوية، ومنها الدورة الشهرية… يتبادلن المعلومات ويتوجّهن بالأسئلة إلى مختصّات من عضوات المجموعة، فتنتقل الخبرات والتوجيهات السليمة من امرأة إلى أُخرى. هكذا تكتسب الدورة الشهرية أبعاداً اجتماعية تضامنيّة، وتُصبِح النساء حليفات في مواجهة تجربة الألم، تجمعهنّ وحدة الجنس والوعي الجندري.
تذكُر إحدى المشاركات في المجموعة، وهي طبيبة نساء وتوليد اسمُها ياسمين، أنّها كانت تُعاني من آلام شديدة خلال الدورة في مراهقَتها، فتجد دعماً من والدتها التي تُعدّ لها مشروبات دافئة وقربة مياه ساخنة وتتركها ترتاح ليومَين في السرير. وفي عملها، تعتذر مِن زملائها عن عدم قدرتها على دخول العمليات في أيام الدورة. أمّا في البيت، فقد شرحت لابنها ذي السنوات السبع ما يطرأ عليها مِن إعياء جسدي ونفسي، فلا يُحمّلها فوق طاقتها ويدعها تستريح.
وفي المقابل، تُفضّل الكثيرات عدم إعلان الأمر، إمّا لأنّهُن لا يجدن دعماً مِن محيطهن، أو لأنّهنَُّ يشعرن بالخجل، أو لأنهنَّ يخشين من أن يُستخفَّ بآلامهنّ ويُنظَر إلى تعبيرهنّ عنها كنوعٍ من المبالغة والتدلُّل، خصوصاً أنَّ كثيرين، وكثيراتٍ أيضاً، لا يُدركون أنَّ حدّة الألم تختلف من امرأةٍ إلى أُخرى.
نقرأ في المجموعة تجربةً مرّت بها شابّة تُدعى نسمة؛ إذ كتبت: “اعتذرتُ، مرّةً، عن موعدٍ مع صديقةٍ لي بسبب الدورة، ولخوفي مِن اشتداد الألم. لكنّّني عدتُ وذهبتُ إلى لقائها بعد أن أصرّت ونصحتني بأخذ مُسكّن. ثمّ حدث ما خشيتُ منه: داهمتني آلامٌ حادّة في الشارع، فقصدنا حمّاماً عامّاً؛ حيث دخلتُ في نوبة قيء وتعرُّق وتصلَّب جسدي، قبل أن يُغمى عليّ”.
كثيراً ما تنقلُ الأمّهات أفكاراً خاطئة إلى بناتهن تحرمهنَّ مِن فرصة تخفيف آلامهنّ
تُضيف نسمة بأنَّ صديقتها أُصيبت بالذعر، وبأنّها أخبرتها حين استفاقت من إغماءتها أنّها لم تكُن تتصوَّر حجم معاناتها، وأنها كانت تعتقدُ أنَّ غيابها عن العمل وتأجيل مواعيدها خلال أيام الدورة الشهرية لم يكُن سوى تدلّل منها، لتختتم قصّتها بالقول: “لا أحد يُصدِّق ما أمرُّ به مِن ألمٍ لمجرّد أنه لا يعيش التجربة”.
كثيراً ما تكتم المرأة آلامها في محاولةٍ لإثبات ذاتها وتأكيد ندّيتها مع الرجُل، خصوصاً في محيطٍ ذكوري يرى في أيّ حديثٍ عن آلام الحيض محاولةً لتبرير ضعف الأداء أو وسيلةً لاستجداء التعاطُف. لكنَّ بعض النساء لا يحتجن إلى الحديث عن الأمر؛ ففي كلّ شهر يُدرك جميع من حولهن ما يعشنه، بسبب حدّة الآلام التي قد تتطلّب، في بعض الأحيان، تدخُّلاً طبّياً.
أذكر في طفولتي مشهدَ عمّتي وهي متكوّرة في الفراش متيبّسةَ الجسد ودموعها تسيل بلا توقُّف. تُحاول، بدافع من الحياء، كتمان آهاتها فلا تُفلح. يتكرّر المشهدُ كلَّ شهرٍ تقريباً، حتّى ألفه رجال البيت ونساؤه. كان أبي يأخذها أحياناً إلى “الاستعجالات”، ثمّ، وبحكم التعوُّد، أصبحَ يكتفي باقتناء إبرة مسكّنة يصفها الطبيب ويحقنها بها جارنا الممرض، فيخفُّ عنها الألم تدريجياً.
اكتسبت عمّتي خبرةً ساعدَتها في التعامُل مع ابنتها التي يبدو أنّها ورثَت عنها قسوة التجربة.
تُمثِّلُ الأمّ، عادةً، أهمّ مصادر الدعم. لكنَّ الثقافة التقليدية السائدة في المجتمع، والتي تمتلئ المحرّمات، قد تُؤثّر سلباً على سلوكها؛ فتزرع في ابنتها (أو بناتها) مشاعر الخوف والشعور بالعار ممّا تمرّ به كلَّ شهر، فيدفعُها ذلك إلى إخفاء الأمر برمّته.
وكثيراً ما تنقلُ الأمّهات أفكاراً خاطئة إلى بناتهن تحرمهنَّ مِن فرصة تخفيف آلامهنّ. وأشهر هذه الأفكار تأثير المسكّنات بشكل سلبيّ على خصوبة المرأة.
ويلعبُ المستوى التعليمي والثقافي دوراً في تعزيز تلك الأفكار. ويكون البديل، أحياناً، في نساء أُخريات من حولنا: الصديقات والزميلات، والمجموعات النسائية؛ مثل “مجتمع النساء الخارقات”.
في اليوم العالمي للمرأة، كلّي أمل بتزايُد “النساء الخارقات” لمقاومة التنميط والاستهانة بالتجارب الأنثوية، وأرجو لنا مزيداً من التضامُن لمواجهة آلامنا.

صحافية وناشطة تونسية مِن مواليد 1985، حاصلةٌ على ماجستير في اللسانيات الإنكليزية، مُهتمَّة بالشأن الثقافي والفني وبقضايا الجندر، تعمل منتجة قصص رقمية، ولها مقالات وترجمات في عددٍ من المواقع العربية.