“ها نحن ذا”: فيليب روث بين يدَي كاتب سيرته
تُقرّبنا مُذكّرات بنجامين تايلور مِن روائيّ أميركي متحفّظ، وتُتيح لنا سماع صوته مرّةً أُخرى، خصوصاً وهو يتحدّث عن الكتابة. يقول روث لصديقه إنَّ ما يهتمّ به هو التفاصيل الجزئية، وأنّه لا يعرف ما يجب فعله بفكرة عامّة.
لكتابة سيرة حميميّة عن فيليب روث (1933 – 2018)، لا بُدَّ أنْ يكون المرءُ كاتباً ومثقَّفاً، وكذلك محلَّ ثّقة لينالَ صداقة رجُلٍ مُتحفّظ، كثيرِ الحيطة، يكره الأضواء ويحبُّ الانزواء في غرفته حيث يقضي ساعات طويلة في العمل على مشاريعه الروائية.
وحدهُ بنجامين تايلور مَن استطاع أن يحظى، إلى حدٍّ ما، بثقة ووُدّ الكاتب الأميركي. كان أحدَ أقرب أصدقائه خلال العقدَين الأخيرين مِن حياته. وسنجد إشارةً إلى عُمق العلاقة بينهما في الصفحات الأولى من رواية “انصراف المُشبِّح” (2007)؛ فقد أهداها روث إلى رفيقه تايلور.
في “ها نحن ذا: صداقتي مع فيليب روث”؛ الكتابِ الصادر في مايو/ أيار الماضي عن “دار بينغوين للنشر”، يكتبُ تايلور بورتريهاً يخلو من المجاملة عن صديقه المفضَّل. وسيُوضّح منذ البداية: “ما أُكافِح مِن أجله هي حقيقة فيليب روث كما كان. هو لا يحتاجني أنا ولا أيّ أحد آخر لزخرفته”. ويضيف أنَّ روث كثيراً ما كان يقول: “شيئان ينتظرانني: الموت وكاتب السيرة، ولا أعرف أيُّهما بالضبط يُفترَض الخشية منه أكثر”.
يُشارك تايلور في كتابه التفاصيل التي جمعته بروث، ويمنح مساحةً لكلّ الانتقادات التي وُجّهت إليه: الرؤية الذكورية المفرِطة في أعماله، والرغبة الجنسية المدمّرة للذات، ليس للتقليل من قِيمة صديقه الراحل، بَل كتدليل على الصراحة التي طالَب بها.
تتضمّن هذه السيرة ثمانية فصول؛ هي: “لا نموذج سوى نفسه”، و”كرامة رجل مسنّ محترم”، و”أخطاء”، و”التدبير المنزلي في أميركا”، و”هناك إلهٌ واسمه الضحك”، و”العنصر الهدّام”، و”لماذا يجب أن يبدو (كُشك الملحدين) حزيناً جداً؟”، و”فِراقات.”
يبدأ الكتاب بالحديث عن خصوصية العلاقة التي جمعت بين روث والمؤلّف الذي يقول: “قضينا آلاف الساعات في صحبة بعضنا البعض. لقد كان نصفَ حياتي فعلاً. لا أستطيع أن أتمنّى صديقاً أفضل منه. التحدُّث يومياً مع شخص مثله يُعدّ هدية. لقد كان بمثابة الخلاص”.
يعترف تايلور بصعوبة كتابة سيرة ذاتية لأحدهم، مُوضّحاً اختلاف الأمر بشكل كلّي عن كتابة رواية؛ فـ“كتابة رواية تجعل منك إلهاً، أمّا كتابة السيرة فلا”، كما يقول، مُضيفاً أنّ الرهانَ في هذا النوع من البورتريه هو القدرةُ على نقل الحقائق كما هي: “الفضيلة الأساسية في الرواية تتحوَّل إلى خطيئة في المذكّرات والسِيَر الذاتية. كما أنّ ما يختار المرء الكشف عنه في الرواية يحكُمُه أساساً دافعٌ جمالي، بينما نحكم أخلاقياً في المقام الأول على مؤلّف السيرة الذاتية، وننشغلُ بمدى قُرب السرد من الحقيقة”.
شيئان ينتظرانني: الموت وكاتب السيرة، ولا أعرف أيُّهما يُفترَض الخشية منه أكثر
جمع الكثيرُ مِن الأحاديث بين الصديقَين. لكنّ التاريخ الأميركي كان الموضوع الطاغي في أحاديثهما. كان روث “المُفترِسُ” (التعبير الذي يستخدمه تايلور في وصفه علاقة صديقه بالقراءة) يستهلك كتاباً أكاديمياً تلو الآخر حين يتعلّق الأمر بتاريخ البلد. وقد أصبحَ صاحبُ “المؤامرة ضدّ أميركا” (2004) – الرواية التي كتبها عن هبوط الولايات المتّحدة إلى الفاشية – كاتباً كبيراً في الثمانينات والتسعينات عندما باتت رواياته مسكونةً بالتاريخ.
ويَظْهر اهتمامُه بالتاريخ الأميركي بشكلٍ جليّ في ثلاثيته الأبرز: “الرعَوية الأميركية” (1997)، و”تزوّجتُ شيوعياً” (1998)، و”الوصمة البشرية” (2000). في هذه الروايات، يذهب روث بخياله الجامح إلى إعادة خلق وطنٍ بأكمله؛ بتاريخه وحاضره، وفق ما كان يشتهي. كانَ خلق وُجودٍ زائف، أو بديل، متعتَه في الكتابة والحياة، وهو الذي خلق أسطورته الخاصّة التي ميّزته عن كتّاب جيله البارزين.
قبل ذلك بنحو ثلاثين عاماً، كان روث قد أصبح كاتباً معروفاً على نطاقٍ واسع بفضل روايته الجنسية “شكوى بورتنوي” (1969) التي كانت أكثر كُتُبه مبيعاً. منحَته هذه الروايةُ دفعةً قوية وقُدرةً على مواصلة إنتاج خيال استفزازي بشكل مُستمر. وقد قال بعد أن فرغ مِن كتابتها: “اكتشفتُ أنّني لست كئيباً بل موهبة صاخبة”، وأضاف: “لقد قذفتُ بَذَاءاتي غير المؤذية على البذاءات التاريخية العالمية”. ولقد كتب أحد النقّاد عام 1972: “أفظع شيء يُمكن لأيّ شخص القيام به مع “شكوى بورتنوي” هو قراءتُها مرّتَين”.

(غلاف الكتاب)
على مدى سنوات، ظلّ اسمُ روث مرشَّحاً دائماً في قوائم “جائزة نوبل للآداب” لكنّه في الأخير انضمّ إلى قائمتها التي تضمّ كتّاباً بارزين تجاهلَتهم “الأكاديمية السويدية”؛ مثل: هنري جيمس، وليو تولستوي، ومارسيل بروست. وفي هذا السياق، يُطلق تايلور على جائزة نوبل اسم “جائزة أي شخص إلاّ روث”.
في مقابِل تلك الخيبة، نال روث أرفع الجوائز الأدبية في الولايات المتّحدة وخارجها؛ مِن بينها: “جائزة فوكنر”، و”الجائزة القومية لكُتّاب أميركا”، و”جائزة النقّاد”، و”البوليتزر”، و”مان بوكر الدولية”. وبين عامَي 2005 و2017، كانَ الكاتبَ الحيَّ الوحيد الذي أصدرت “المكتبة الوطنية الأميركية” عشرة مجلّدات لأعماله الكاملة.
لا شكّ أن صاحبَ “وداعاً كولومبوس” (1959) كانَ أفضل صديق لتايلور. غير أنّه ظلَّ يَحتفظ لنفسه ببعض الأسرار التي لم يرغب في مشاركتها مع أيّ شخصٍ آخر: “لقد تمكَّن مِن معرفة الكثير عنّي أكثر مما كنتُ سأفعل بالنسبة إليه”، يشتكي تايلور؛ فقد شعرَ بأنهما “لم يكونا متساويَين”، وأنَّ “صداقتهما كانت غير متوازنة”، ليس فقط لأنَّ روث يكبره بعشرين عاماً، بل لأنَّه كان يتصّرف بالطريقة نفسها مع جميع مَن أحبّوه.
كان روث، وفق المؤلِّف، يتميَّز بملَكة “الألفة الرهيبة”. لقد جعل الناس يُخبرونه بأشياء لم يكونوا ليُخبروا بها أحداً غيره. كان مِن المستحيل التخفيّ مِن نظرته الحادّة. وعلى الرغم مِن أنَّ تايلور كان شاهداً على أسوء وآخر أيام صديقه، والتي عصفت بها مُسكّنات الألم والخرف، فإنّه ظلَّ في نظره شخصية غامضة يُنظَر إليها مِن بعيد.
حتى في أسوء وآخر أيامه، ظلَّ في نظر المؤلِّف شخصية غامضة يُنظَر إليها مِن بعيد
بعد أن أصدر الكاتب روايته الأخيرة “نميسيس” (2010)، أعلن روث عن تقاعُده واعتزاله الكتابة. لكنَّ تايلور اعتَبر حينها أنَّ “القول بأنَّ فيليب روث توقّف عن الكتابة غير دقيق… هُو توقّف عَن صُنع الفنّ”.
وبعدها لم يكن أمامه مِن خيار آخر سوى إعادة قراءة الروايات التي أحبّها على مدار عُقود من عمره لكلّ مِن غوستاف فلوبير، وهنري جيمس، ووليام فوكنر، وفرانز كافكا.
تُخفِّف مذكّرات بنجامين تايلور مؤقّتاً من الخسارة، مِن خلال إعطائنا فكرةً قريبةً عن أحاديث روائيّ معروفٍ بتقشُّفه في الحديث. القيمةُ المضافة هنا هي سماع صوته مرّةً أُخرى، خصوصاً وهو يتحدّث عن كتاباته. يقول روث لتايلور إنَّ ما يهتمّ به في عمله هو “التفاصيل الجزئية”، وأنّه لا يعرف ما يجب فعله بفكرة عامّة، ويضيف: “إن قوّة دماغي كلّها مرتبطةٌ بتحديد الأشياء”.
كتَب مرّةً يُقارِن بينه وبين الروائيَّين سول بيلو وجُون أبدايك بأنّهما “يحملان كشّافهما الضوئي خارجاً في العالَم، ويكتشفانه كما هو. أمّا بالنسبة إليّ، فأحفر كوّة وأُسلّط عليها الضوء”.
“ها نحن ذا” سيرةٌ موجزةٌ عن روائي أميركي بارز، تنتقلُ بسلاسة مِن مناقشة أعماله إلى علاقاته مع زملائه الكتّاب، إلى زواجه الفاشل، وتجاربه الإنسانية الأُخرى، وتدهوُر صحّته. هذه المذكّرات ليست تحليلاً أدبياً مُعمَّقاً، بل هي فحصٌ مَدروسٌ لكاتب وهو يُؤدّي حرفته، أكثر من أي شيء آخر. في المحصلة، هو كتابٌ عن المحادثات والرفقة.
لمحة
بنجامين تايلور (1952) أكاديمي وكاتبٌ أميركي، يعمل أستاذاً في كلية الآداب بجامعة كولومبيا. مِن إصداراته: مُذكّراته العائلية “جلبةٌ في منزلنا” (2018)، وكتابُ أسفاره “أعلنت نابولي: المشي حول الخليج” (2012)، إلى جانب روايتين: “حكاياتٌ خارج المدرسة” و”كتابُ الانتقام”.
حرَّر كتابَين عن سُول بيلو: “سُول بيلو: الرسائل”، و”هناك ببساطة الكثير للتفكير فيه: جمع الأعمال غير الروائية”، وآخر عن مارسيل بروست بعنوان “بروست: البحث”، وآخر عن سوزان سونتاغ بعنون “استخلاص المعلومات” (2017).
كاتب ومُصوِّر فوتوغرافي من مواليد 1988، خرّيج قسم الإعلام والاتصال في جامعة سطيف، مدوِّن منذ عام 2009، وكاتب للقصة القصيرة. يهتمُّ بالشأن الثقافي والفنّي وبمجال الفوتوغرافيا، ونشر مقالاتٍ ونصوصاً في وسائل إعلام جزائرية وعربية.