الكاتب والأحمق (01): في الطريق لاغتيال الطاهر وطّار

تَفحَّصَني بعينٍ مفتوحة وأُخرى نصف مغلقة. مِن الواضح أنه كان يبحث عن صورةٍ لهذا الوجه الواقف عند رأسه، ليضع تحته اسماً أو عنواناً؛ فمَن يأتي لمحاورة الطاهر وطّار يجب أن يكون اسماً معروفاً في الصحافة والأدب.

الكاتب والأحمق (01): في الطريق لاغتيال الطاهر وطّار
(الطاهر وطار)

في هذه السلسلة المكوَّنة من أربع حلقات، يروي “المُواطن” علي رحالية قصّة حوارٍ أجراه مع الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطّار (1936 – 2010)، ونُشر في صحيفة “الخبر الأسبوعي” (العدد 64، من 7 إلى 13 يونيو/ حزيران 2000).

 

كانت الشمسُ تمسح بحنانِ أشعّتها الدافئة الخدوشَ وتمسد مِن على وجهي الأخاديدَ التي حفرَتها مخالبُ صقيع تلك الصبيحة الربيعية، عندما سمعتُ بحّةَ صوتِه التي نحتها النيكوتين والكافيين وسمومٌ أُخرى كثيرةٌ منذ سنين… سمعتُه يناديني باسمي طالباً منّي اللحاق به إلى المكتب.

كان فِلتر سيجارة مارلبورو ملتصقاً بشفته السُّفلى وقد غطّى دخانُها نصفَ وجهه الأيمن. اقترَبَ من مكتبه، انحنى قليلاً ثُمّ مدّ يده إلى الدُّرْج العلوي وسَحَبه إلى الخلف، فظهرت كومةٌ من الأوراق المكتوبة بخطّ اليد، وصفحاتُ جرائدَ، وأغلفةُ مجلّاتٍ عربية وفرنسية، وظرفٌ أصفرُ متوسّط الحجم. تناوَلَ الظرفَ ومدّه ناحيتي وقال: “لقد حدّدتُ لك موعداً يوم الخميس، الساعة الثانية بعد الزوال. تُسلّمني الحوارَ يوم الأحد”.

خرج من المكتب، وكان وجهُه قد اختفى بالكامل في غمامةِ دخانِ ما تبقّى من سيجارة المارلبورو التي تتراقص فوق شفته، وراح يُنادي بنفس الصوت ونفس البحّة التي حفرها النيكوتين والكافيين وسمومٌ أُخرى كثيرة: “يا الله يا ناصر (جابي)… نخلّصلك قهوة عند بولحية”.

عندما فتحتُ الظرفَ الأصفر، وجدتُ بداخله كتاباً من الحجم المتوسّط. في الواقع، كان مجموعةَ أوراق شبه ملتصقة ببعضها البعض؛ فكلّما أمسكتُ ورقةً طارت واستقرَّت بين أصابعي وكأنها ريشة دجاجة. كانت طباعة الكتاب “غير مغرية” بالقراءة على الإطلاق، لأنها كانت… في غاية السوء.

كان اسمُ المؤلِّف يرقدُ في أعلى منتصف غلاف الكتاب: “الطاهر وطّاهر”، وغيرَ بعيدٍ تحتَه يتمدّد العنوانُ كحيّةٍ سوداء: “الوليُّ الطاهر يعود إلى مقامه الزكي”. آه… إنّها الرواية الجديدة لعمّي الطاهر المستفز!

لم أعرف لماذا اختارني عبد العزيز بوباكير أنا بالذات لإجراء الحوار مع “الرفيق” الطاهر وطّار

لم أعرف لماذا اختارني عبد العزيز بوباكير أنا بالذات لإجراء الحوار مع “الرفيق” الطاهر وطّار. كان الأجدر به أن يُكلف “المتألّقة” دائماً آمال فلاح. هذا هو الوضع الطبيعي، فآمال محاوِرة جيّدة وهادئة وعلاقتها بالأدب علاقةٌ “عضوية” كما يقول”المثقّفون”، و”حميمية” كما “يتبجّح” بذلك الأدباء. كانَ الأدبُ عشقَها الثاني، وكانت الصحافةُ عشقَها الثالث. أمّا عشقُها الأول فكان الحرية.

في تلك الليلة، قرأتُ “الولي الطاهر في مقامه الزكي” مخلوطةً برائحة الكحول المنبعث من الغراء الرديء الذي أُلصقت به أوراق الرواية. عندما انتهيتُ من “اجترارها” للمرّة الثانية، كان الغضبُ قد حوّلَني إلى شعلةٍ من النار والحقد. لحظَتَها، كنتُ جاهزاً وعلى أتمّ الاستعداد لـ”ذبح” “الوليّ” الذي اكتشفتُ بأنه لم يكن “طاهراً”، وتحطيم “مقامه” الذي لم يكن “زكيّاً” كما اعتقدت.

ربما كان هذا هو السبب، وربما الحيلةُ، وراء اختيار عبد العزيز بوباكير لي أنا بالذات لتنفيذ عملية “الاغتيال” و”التخريب”! فآمال فلاح لم تكُن “مهيَّأةً” لمثل هذا “العمل الشنيع” فلقد كانت أمال أشبه بـ”اللمسة الرومانسية” اللطيفة و”الجملة الأدبية” البديعة. باختصار، كانت مشروع كاتبة حقيقية. أمّا أنا، فقد كنتُ عكسها تماماً: “أحمقَ” بلا خجل! و”ساديّاً” ما في ذلك ذرّةُ شك! ومشروعَ “كافر” ستتلذّذُ نيران الجحيم وهي تشويه من كل جانب!

■ ■ ■

يومَ الخميس، وفي الساعة الثانية بعد الظهر، كنتُ قد تركتُ “مارشي كلوزال” ورائي عندما ظَهَر شارع رضا حوحو أمامي. لم يكن “وكر” الطاهر وطّار بعيداً؛ فما هي إلّا دقائقُ قليلة حتى دفعتُ باب “الجاحظية” ودخلتُ أبحث عنه. سألتُ آنسةً مُحَجَّبةً في الاستقبال، فأشارت بسبّابة يدها اليُمنى، وقالت بصوتٍ لا يكاد يُسمع: “هناك”… نظرتُ إلى “هناك” التي أشارت إليها، فرأيتُ “جثّةً” ممدّدةً في الظل، فوق أريكة في زاويةٍ مِن بهو المبنى.

وقفتُ أمامه، فرفع عينيه باتجاهي وكأنه يتسلّق شجرة. عندما التقت العيون، قلت له: “لقد جئتُ من طرف بوباكير بخصوص… الحوار”، ثمَّ أخرجتُ الرواية شبهَ ممزّقةٍ من محفظتي الصغيرة وقرّبتُها من وجهه، لأنه كان قابعاً في الظلّ. خفض بصره وقرّب وجهه إلى الغلاف وتأمّله وكأنه يتأمّل وجهه في المرآة، ثم عاد ليتسلّق الشجرة بعينَيه.

نظر إليَّ مِن دون أنْ يقول شيئاً. تَفحَّصَني بعينٍ مفتوحة وأُخرى نصف مغلقة. مِن الواضح أنه كان يبحث ويُفتّش وينبش في ذاكرته عن صورة لهذا الوجه الواقف عند رأسه، ليضع تحته اسماً أو عنواناً… اسمَ صحافيّ، اسم ناقد، اسم كاتب، عنوانَ مقال، عنوان دراسة، عنوان كتاب، أيّ شيئ له علاقة بالأدب والثقافة، وهذا أمرٌ طبيعي؛ لأن الذي يأتي لمحاورة الكاتب والروائي الطاهر وطّار، يجب أن يكون “وجهاً” و”اسماً” معروفاً في عالم الصحافة والأدب.

لكن هذا “الوجه البارد” كالصقيع يقفُ عند رأسه وينظرُ إليه نظراتٍ فارغةً وعدمية… نظرات ليس فيها لا دهشة القارئ، ولا إعجاب الناقد، ولا رعشة المريد، ولا حتى فضول الصحافي. كانت نظراتُ هذا “النكرة” وهذا “المجهول” القادم مِن اللامكان واللازمان جافّةً وقاحلةً وربما حاقدة وبلا سبب!

هل شتمني الطاهر وطّار في سرّه؟ احتمالٌ كبيرٌ وواردٌ جدّاً! وهل شتم “الرفيق” بوباكير؟ يا ريت! وهل لعن الظروف التي جعلته يُولَد في هذا البلد المتخلّف والجاحد؟ أكيد، وهذا حقُّه الطبيعي والأدبي.

للقصّة بقية…

كاتبٌ وصحافي جزائري من مواليد 1970، خرّيج كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجزائر العاصمة، مهتمٌّ بالشأنَين السياسي والتاريخي، كتبَ في عددٍ من الصحف الجزائرية. صدر له كتابان: “اليوم الأخير”  (2000)، و”مواطن لا ابن كلب.. في انتظار الخراب” (2011).

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
  • Fethi
    03 يناير 2021 | 19:26

    مبادرة جيدة تستحق كل التشجيع ، بالتوفيق للجميع

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة