كلُّ هذه الأشياء التي نمسحها
(تصوير: باتريك غروبان)

كلُّ هذه الأشياء التي نمسحها

اختفَت مهنةُ مسح الأحذية مِن أرصفة المدن الجزائرية قبل ثمانية وخمسين عاماً بقرارٍ رسميٍّ من السلطة التي رأت فيها، آنذاك، استمراراً لمَشاهد إذلال الجزائريّين مِن قِبل الاستعمار الفرنسي. غيرَ أنَّ هذه المهنة ستعودُ بأشكالٍ مختلفة بعد عقُودٍ من الاستقلال.

بينما لا تزال تُمارَس في كثيرٍ من بلدان العالَم إلى اليوم، اختفَت مهنةُ مسح الأحذية مِن أرصفة المدن الجزائرية قبل 58 عاماً، بقرارٍ من السلطة التي رأت فيها استمراراً لمَشاهد إذلال الجزائريّين مِن قِبل الاستعمار الفرنسي. غيرَ أنَّ هذه المهنة ستعودُ بعد عقُودٍ من الاستقلال بأشكالٍ مختلفة؛ أبرزُها التزلُّف المبالَغ فيه للسلطة ورموزها، والذي سيُطلق عليه المخيالُ الشعبي تسميةَ “الشيتة”، في استعارةٍ لتلك المهنة سيّئة الصيت.

تفشّت الظاهرةُ بشكلٍ غير مسبوق في فترة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة (1937) الذي تولّى رئاسة البلاد طيلة عشرين عاماً؛ لدرجة أنَّ عدداً غير قليلٍ من السياسيّين وغير السياسيّين كانوا يفتخرون في لقاءاتهم الصحافية بكونهم “شيّاتين”. ولم يتوقّف ذلك على الرغم من قيام حَراك شعبي في 2019 أطاحَ ببوتفليقة وبعضٍ من رموز حُكمه.

بعيداً عن السياسية، وربما ليس بعيداً عنها كثيراً، برزت في السنوات الأخيرة ظاهرةُ الأطفال الذين يقفون عند إشارات المرور ويُسرعون، بمجرّد اشتغال الضوء الأحمر، إلى السيّارات المتوقّفة لمسح زجاجها وتلميعه، مقابل بضعة دنانير يضطرُّ السائقون إلى دفعها نظير خدمةٍ لم يطلبوها، في شكلٍ مِن أشكل التسوُّل غير المباشرة، ومِثلُه عرضُ المناديل الورقية للبيع عند مفترقات الطُّرُق التي لا تكاد تخلو من أطفالٍ ونساء يحملن رُضَّعَهن أحياناً ويقفن لساعاتٍ طويلة في العراء طلباً للصدقة.

في غير ما مدينة جزائرية، لا يندُر أن تلتقي بـ”ماسحين” من نوع آخر، يُقلّبون حاويات القمامة بحثاً عن أغراض صالحة لإعادة الاستعمال. يأخذ هؤلاء مواقعَهم في وقتٍ مبكر من اليوم بالقُرب مِن الحاويات التي تتوسّط عادةً الأحياء السكنية بدلَ المساحات الخضراء، ثمّ يشرعون في عملهم مع بدء خروج السكّان إلى أشغالهم ومعهُم أكياس القمامة المنزلية؛ حيثُ يقومون بـ”مسح” شاملٍ لمحتويات الحاوية ليستخرجوا منها ما يُمكن استرجاعُه مِن أقمشة وقطعٍ معدنية أو بلاستيكية أو ورقية.

وتُطلَق على هؤلاء “المرسكِلين” في مدينة وهران تسمية “الشرامطية”، وهي كلمة مشتقَّة من “شرميطة”، وتعني قطعة القماش البالية، كتلك التي كان ماسحو الأحذية يستعملونها في زمنٍ مضى.

يعرفُ المرسكِلون النُّظُمَ الاستهلاكية للعائلات الجزائرية أكثر ممّا تعرفه وزارة التجارة

يمسحُ المرسكِلون اللُّقى ويُلمّعونها ثمّ يركنونها جانباً في انتظار قدوم شاحنةٍ صغيرة من تلك الشاحنات الصينية التي وُزّعت على الشباب في شكلٍ قروضٍ ضمنَ برامج التشغيل التي انتشرت في السنوات الأخيرة؛ حيثُ يشتري أصحابُها ما جرى جمعُه ويتّجهون به إلى منطقةٍ صناعية أنجزَ فيها “مُستثمرٌ”، استفاد من قرضٍ بنكي هو الآخر، مصنعاً لإعادة تدوير النفايات.

يتنافس “الشرامطية” على المواقع التي تحوي حاوياتُها أفضل المواد القابلة للاسترجاع. ولعلَّ نشاطَهم هذا جعلهُم يعرفون النظمَ الاستهلاكية للعائلات الجزائرية أكثر ممّا تعرفه وزارة التجارة وغيرُها من المؤسّسات الرسمية.

ويستعمل هؤلاء وسائلَ تقليدية تتمثّل في العربات التي تجرُّها الأحمرة. وقد تلتقي عربةٌ يجرُّها حمارٌ بسيارة فارهة في مفترقٍ من مفترقات طرق المدينة، في مشهدٍ يعكسُ التقاءً فريداً بين عوز مدقع ورفاهية فاحشة، ويُلخّص ضمور الطبقة الوُسطى في الجزائر.

حاوية - تصوير حمزة بوحارة

(مِن وهران 2020، تصوير: حمزة بوحارة)

قبل ذلك، برزت ظاهرةُ جمع الخبز اليابس مِن الأحياء السكنية، والذي يُصبح غير قابلٍ للمضغ بعد يومٍ واحدٍ من خروجه من الفرن بسبب رداءته؛ حيث يبيعوه جامعوه لمربّي المواشي الذين أقاموا إسطبلاتٍ فوضويةً في أحياء الصفيح بضواحي المدن التي انتقلوا إليها خلال العشرية الحمراء.

والخبز، الذي تعتبره الدولة الجزائرية “مادةً إستراتيجية” وتُنفق ملايين الدولارات سنوياً لاستيراد مادّته الأولية المتمثّلة في القمح الفرنسي، هو المادة الأكثر استهلاكاً مِن قِبل الجزائريّين. غير أنَّ المستهلكين يرمون، وفق أرقام وزارة التجارة، ما بين 10 و12 مليون “خبزة” يومياً، أي ما يعادل 340 مليون دولار أميركي سنوياً.

ولأنَّ الخبز يحظى بمكانةٍ رفيعةٍ عند الجزائريّين الذين يُنزلونه منزلة التقديس، فهُم لا يرمونه عادةً في حاويات القمامة، بل يضعونه في زاوية بعيدةٍ حتّى لا يختلط بالقاذورات، تجنُّباً للغضب الإلهي، وليبقى صالحاً للاستهلاك الحيواني.

وإلى جانب مربّي الماوشي، يستفيد مِن الخبزِ اليابس أيضاً بعض الغشّاشين من صانعي “الكارانتيكة” (القرنطيطة)؛ حيث يعمد هؤلاء إلى طحنه وخلطه مع طحين الحمص لإعداد هذه الوجبة التي تُعتَبر الأكلة الأكثر شعبيةً في وهران وبعض المدن الجزائرية الأُخرى.

لا تتوفّر أرقامٌ رسميةٌ لمُمارِسي تلك الأنشطة لدى “الديوان الوطني للإحصاء” ولا عند “وزارة التضامُن الوطني” التي لا تتوقّف ميزانيتُها عن الارتفاع سنةً بعد أُخرى لتبلغ في 2021 ما قيمتُه 13265 مليار سنتيم، أي ما يفوق مليار دولار أميركي. لكنَّ الثابتَ أنَّ هؤلاء ليسوا قلّة، وأنَّهُم لا ينحصرون في فئةٍ دون أُخرى؛ إذ بات يمارسُ تلك المهنَ شبابٌ وكهولٌ وشيوخٌ من الجنسَين، بعد أنْ فرض الفقر سلطانه في بلد غنيّ ينتظر مواطنوه بلقاسم راجف آخرَ قد يُفكّر في توفير سُبُل عيشٍ تضمن كرامتهم.

صحافي جزائري مِن مواليد 1959 في بني ورثيلان بسطيف. خرّيج معهد العلوم السياسية والإعلامية بجامعة الجزائر سنة 1985. بدأ العمل الصحافي مِن صحيفة “الشعب” في نفس السنة. وبعد استقراره في وهران سنة 1989، انتقل إلى “المساء”، ثم “الخبر” منذ 1997.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة