“محفل” الفاضل الجزيري: هل بالرقص وحده يستمتع الجمهور؟

تفاجأ البعض من ضعف العرض الأخير لشخصية ثقافية مكرّسة، لكن العلاقة الزبونية بين فنان والدوائر الرسمية لا يمكن لها إلا أن تنتج شيئاً من هذا القبيل.

“محفل” الفاضل الجزيري: هل بالرقص وحده يستمتع الجمهور؟
من عرض المحفل في افتتاح مهرجان قرطاج

دون دعاية خاصة غير تلك التي يوفرها بشكل مجاني أن تكون العرض الافتتاحي لمهرجان قرطاج الدولي، أُطلق المحفل؛ المشروع الجديد التي يقترحه الفاضل الجزيري، في سهرة 14 جويلية 2023، وكان مثل الحصان الذي ظهر خلاله على ركح المسرح الروماني دون رؤية واضحة، واقعاً بين الجموح والتردد، غير منضبط ولا ممتزج ببقية عناصر العرض حيث يجتمع الفولكلور والروك وتخمة الأضواء والضوضاء.

ربما لم يكن للدعاية أن تقول شيئاً، فالعرض تختزله فكرة أنه جزء من تاريخ الجزيري وهو يَنقل فضاءات الإبداع الشعبي إلى المسارح ليمشهدها في فرجة، تماماً كما فعل مع النوبة والحضرة.

لكن فكرة المحفل وحدها لم تكن كافية لتغطي نقص التصورات الإبداعية، فلم تأت المادة الصوتية على سوية ذوقية واحدة مع تقديم شتات من المؤدين، كانوا جميعهم ملتصقين بطرق أدائهم المعهودة لا يجمعهم خيط ناظم، وفيما نعتقد أن البعد البصري هو نقطة القوة التي يستند إليها الجزيري نجد أنه أكثر العناصر فقراً، فكانت الأضواء متنافرة لونيا كتنافر مزج الفولكلوري بالموسيقات الوافدة، وغاب الحد الأدنى من الأناقة على معظم الخيارات الهندامية للمشاركين في العرض من مؤدين وعازفين وراقصين.

في الحقيقة، لا معنى للدعاية لهذا العرض ليس لأن مقولته غير جذابة، بل لأن أعمال الجزيري لا تحتاج إلى دعاية، هي نوع من المقاولات القائمة على علاقة زبونية ثابتة مع وزارة الثقافة منذ عقود. يكفي أن يقترح الجزيري مشروعاً حتى يحظى بتمويل سخيّ، قلة من يعرفون أسرار الوصول إليه في الساحة الفنية التونسية. وأحياناً يدعى الجزيري كي يملأ بعض الفراغات، والأرجح أن الجديد  طُلب في وقت متأخر لتأمين سهرة افتتاح قرطاج فاخترع الجزيري المحفل، وكسباً للوقت عاد لصندوق أعماله القديمة وأخذ منه الكثير من العناصر جاهزة.

ليست الروح المقاولاتية بجديدة عن الجزيري، فمنذ استقل  عن جماعة “المسرح الجديد” في ثمانينيات القرن الماضي لم يفتأ يسحب من خزائن الدولة مرة بعرض فرجوي ومرة بشريط سينمائي أو عرض مسرحي.

في كل مرحلة يعرف الفاضل على أي موجة ينبغي أن يتزحلق. حين أتي زين العابدين بن علي إلى الرئاسة بدأ الترويج لفكرة التغيير، وكما جرى تصفية طبقة سياسية برمتها محسوبة على زمن بورقيبة، كان ينبغي أن تظهر في الثقافة أسماء جديدة وألوان جديدة؛ اقترح الجزيري “النوبة” مقدماً الفنون الشعبية المهمشة من الإعلام والمهرجانات ووضعها في الواجهة، وحين فشل المشروع سريعاً لسوء توزيع غلته المالية، سرعان ما اخترع الجزيري “الحضرة” ناهلاً هذه المرة من الموسيقى الصوفية.

لم تغب “الحضرة” عن مسارح تونس وقاعاتها لقرابة ثلاثة عقود، ولعلها حققت رقماً قياسياً في تاريخ العروض في تونس، وهو ما يعني بشكل مباشر رقماً قياسياً في المستحقات من وزارة الثقافة راعية المهرجانات. كانت الحضرة تعبيرة فنية ترضى عليها الدولة، فهي كما توفّر الخبز (أو كانت تفعل) ينبغي أن توفّر الترفيه، وقد صاغ الجزيري الحضرة بحيث تكون عرضاً راقصاً حتى وإن كان مضمونه دينياً، وقد كان هذا المضمون الديني مما ترضى عليه الدولة أيضاً فهو تنفيسة تتضمن توجيهاً نحو إسلام مرحٍ تحب ترويجه الدولة في مواجهة الأشكال الأخرى من الإسلام التي تتبرعم داخل المجتمع التونسي.

لكن لماذا تخلى الجزيري عن دجاجة الحضرة التي تبيض ذهباً فجاءنا بالمحفل؟ لقد بدأت التوليفة التي شكلها المخرج التونسي في الاهتراء التدريجي منذ أن رُفعت عنها الحماية الرسمية، وانفسخ عقد الاحتكار بالتدريج، حتى فقدت سحرها الذي تمارسه على الناس. وفي الأثناء، ظهرت “الزيارة” لسامي اللجمي بوصفها العرض الصوفي الأكثر اكتمالاً فنياً والأقرب عن التعبير عن الهوية التونسية وأغوارها التراثية.

ربما نظر الجزيري إلى ما يعيشه الشعب التونسي من إحباط نفسي وانسحاق اقتصادي، ففكّر وقدّر أن تنفيسة هذه المرحلة هي”المحفل”، ووضع فيه أي شيء وكل شيء. يعرف أن زبونه الحصري سيقبل بأية بضاعة، وبالتالي فالارتجال مسموح به، ويعرف أيضاً أن المنتقدين سيصنعون دعاية مجانية للعرض، فلم البحث عن ضبط العناصر أو بناء منطق داخلي للفقرات المقدمة. يعرف أيضاً أن الجمهور سينهمك في الرقص ولن يشكو من قلة الأصالة الإبداعيةومن السخافة.

فشل الجزيري فنياً فشلاً ذريعاً هذه المرة، ولكنه نجح تجارياً ككل مرة. يبدو سعيداً بما قدّم، سعيداً بالنقد الذي يتداوله الناس، وربما سعيداً حتى بفضح الصفقة الأبدية مع دوائر وزارة الثقافة…

ناشطٌ مدني وكاتب مقال ورسّام كاريكاتير تونسي من مواليد 1975. يعمل في القطاع المالي والاستشاري، ويهتمُّ بأدوات تجديد الثقافة السياسية وتنظيم التطوُّع الشبابي لخدمة قضايا الشأن العام والبيئة.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة