“أربعطاش غير درج”… توثيق الثورة التونسية

يوثّق الكتاب، الصادر حديثاً، للثورة التونسية، كاشفاً بذلك ما تخلّفت عنه الدولة على مدى تاريخ بعيد، حين عجزت عن إرساء تنمية فاعلة وأهدرت كلّ فرص التصالح مع الشعب، وصولاً إلى تاريخ أقرب حين أهملت واجباتها تجاه الذاكرة الجمعية.

رحبة - تونس
“أربعطاش غير درج”… توثيق الثورة التونسية
(من سلسلة "بماذا يحلم الشهداء"، 2013، نضال شامخ/ تونس)

في المكتبات الغربية الكبرى، العمومية والجامعية، يوجد دائما رفٌّ مخصّص لما يُعرف بالكتب الوثائقية، فهي كُتبٌ لا تتناول التاريخ بمعناه الأكاديمي، ولا تُقدّم مقاربات مؤلّفين يعتمدون فنون الكتابة المعروفة من أدب وفكر، بل ترصد التاريخي القريب كما حدث في الواقع من دون كثير رتوشات وتقدّمه في كتاب، باعتبار الأخير وثيقة يمكنها أن تعبر الزمن.

هذا الرفُّ غائب في المكتبة العربية لقلّة الأعمال التي تنطبق عليها مواصفات “الكتاب الوثائقي”. لكنّ القلة لا تعني غياباً تاماً، كما أنَّ غياب المصطلح لا يعني عدم وجود كتاب وثائقي عربي.

ينتمي الكتاب الجماعي (تماماً مثل الثورة) “أربعطاش غير درج، أوان تونس” (أربعة عشرة إلّا خمس دقائق… ) إلى فئة الكتب الوثائقية، وهو عمل جماعي أشرفت عليه رابعة بن عاشور، وشارك في إنجازه عدد من الباحثين والمثقّفين التونسيّين؛ مثل: قمر بن دانة والهاشمي بن فرج ورجاء بن سلامة ومنصف بن موسى، إضافة إلى مؤسّسات مثل “دار الكتب الوطنية” و”المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصرة”، و”الأرشيف الوطني”، فضلاً عن مساهمة منظّمات مدنية، وهو ما أنشأ ائتلافاً هاجسُه التأريخ للثورة التونسية.

كان الهدف الأول مِن الكتاب أن يرافق معرضاً أقيم بين 14 يناير/ كانون الثاني و31 مارس/ آذار 2019، وحاول التأريخ لـ”الثورة التونسية” من منظور متعدّد الأصوات والوسائط (جرى إنجاز قرص مضغوط يجمع وثائق صوتية وبصرية ونصية متنوّعة). لكن في حين تنتهي المعارض، يبقى سوى الكتاب (الوثائقي) – وقد جرى تطويره إلى عمل ضخم في طبعته النهائية – ليواصل شهادته على ثورة تونس.

يحاول الكتاب تكوين رؤية شاملة عن حدث غيّر واقع تونس ثمّ امتدّ إلى خارجها

بحسب التقديم، فالكتاب “مشروع متعدّد الأبعاد أُريد به أن يتوّج أعمال جمع التراث الرقمي المتعلّق بالانتفاضات الشعبية التي شهدتها تونس خلال الأيام التسعة والعشرين الممتدّة بين 17 ديسمبر/ كانون الأوّل 2010 و14 يناير/ كانون الثاني 2011”. كانت الإشارة إلى التراث الرقمي ضرورية؛ فهو يمثّل المادة الرئيسية للتأريخ للثورة، وبالتالي فالكتاب محاولة لترجمة ذلك التدفّق الرقمي إلى مجموعة من الصفحات تجتمع في بناء واحد وتكوّن رؤية شاملة عن الحدث الذي غيّر واقع تونس ثمّ امتدّ إلى خارجها.

تنهل عتبات الكتاب من مرجعيات الأدب المقاوم في تونس، ففي الافتتاحية التي كتبتها حورية عبد الكافي، المشرفة على المعرض، نجد البيت الشهير لأبي القاسم الشابي “إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بدّ أن يستجيب القدر”، وتُعلّق عبد الكافي بالقول: “وأثبتت الأحداث صدق تجلّي الشاعر”. ويحمل عنوان الفصل الأول: “تحت الرماد اللهيب.. “، وفيه عودة إلى الأسباب البعيدة للثورة؛ مثل الحكم الفردي لبورقيبة، وتراث الحركات الاحتجاجية اليسارية والإسلامية، وتصلّب الدولة البوليسية.

أربعطاش غير درج

(غلاف الكتاب)

يُحسب للكتاب حساسيته للأسطوري في ما حدث في تونس؛ فمثلاً نقرأ في إضاءة الحدث الأوّل الذي أطلق الحركة الاحتجاجية: “سيدي بوزيد تحترق: فعل مأساوي يتحوّل إلى أسطورة تعبوية”، وهو تعليق يشبه مقدّمة أدبية لأحداث رواية ستتوالى فصولها تماماً كعملية تعبئة؛ حيث ينضمّ في كلّ مرّة عنصر اجتماعي جديد إلى الثورة (الفلاحون، النقابات، المحامون، التلاميذ…). وطبعاً هناك “المواجهة السيبرانية” التي لعبت دور تغطية جوية للاحتجاجات على الأرض.

يرسم الكتاب مساراً آخر يتعلق بـ”التخبّط المؤسّساتي”، فالثورة لم تنجح بسبب حسن إدارتها شعبياً، بل بسبب سوء إدارتها رسمياً، وهو ما يمتدّ إلى ما بعد تاريخ تنحّي زين العابدين بن علي عن الحكم، فقد بدا أن العقل الذي يدير البلاد قد تشتّت ولم تعد الدولة جهازاً جامعاً.

يُحسب للكتاب، أيضاً، أنه قدّم قائمة شهداء الثورة، وهي حركة رمزية من حيث كونها بقيت خطوة معلّقة لم تنجزها مؤسّسات الدولة، وبقيت ورقة تتلاعب بها الأحزاب ضمن مواعيدها الانتخابية أو مناوراتها البرلمانية.

وبشكل عام، فالعمل يكشف ما تخلّفت عنه الدولة في تونس، على مدى تاريخ بعيد، حين عجزت عن إرساء تنمية فاعلة وأهدرت كلّ فرص التصالح مع الشعب، وصولاً إلى تاريخ أقرب تبرز فيه واجباتها تجاه الذاكرة الجمعية. “أربعطاش غير درج” نقطة أُخرى يسجّلها المجتمع المدني على حساب الدولة، ومن الجليّ أنّ القوى الشعبية عليها أن تجتهد لوقت أطول وإلا لن يحدث شيء في تونس.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة