سيرة ثقافية للمطبخ المغربي… حين يتحوّل الصحن إلى مرآة

سيرة ثقافية للمطبخ المغربي… حين يتحوّل الصحن إلى مرآة

تحوُّلاتٌ جارفة تشهدها العادات الغذائية المغربية اليوم، قد يكون أبرزُها استحالة العلامات التجارية إلى "طوطم" اجتماعي، والانتقالُ مِن طعامٍ كثيفِ الرمزية إلى آخر يفتقد، في كثير من تعبيراته، إلى الانتماء.

خلال إحدى دورات “موسم أصيلة الثقافي الدولي”، الذي يُقام في يوليو/ تمّوز من كلّ سنةٍ في المدينة الواقعة شمالَ المغرب، اكتشفتُ، برفقة أصدقاء وزملاء، مطعماً يُقدّم أطباقاً من المطبخَين الإنكليزي والفرنسي. كان الأمرُ مُختلفاً، بالنسبة إليَّ على الأقل.

لكن، ورغم استمرارنا في طلب تلك الأطباق طيلةَ أسبوع تقريباً، مدفوعِين بفضول استكشاف نظام غذائي جديد، لم يكُن ممكناً بالنسبة إلينا التنكُّر للمطبخ المحلّي، وربما لعادة غذائية دارجة في المغرب: كنّا في يوم جمعة، ولم نكُن لنطلب غير “الكسكس” طبقاً رئيسياً للغداء.

وعلى جري العادة، قُدِّم لنا الكسكس في “قصرية”، وهي ماعونٌ تقليدي مصنوعٌ من الفخّار؛ إذ لا يستقيم الأمرُ دونها، رغم إمكانية تقديم هذه الأُكلة في صحون أُخرى.

وليس التعامُل مع الطعام في هذه الحالة، وفي كثيرٍ غيرها، معزولاً عن النسَق الثقافي؛ إذ نقرأ في الطبق الواحد التاريخ والمقدَّس والسُّلطة والسياسة والغرائز والرهانات والقيَم.

في كتابه “المغرب النباتي، الزراعة والأغذية قبل الاستعمار” (2018)، يُشير المؤرّخ الاجتماعي المغربي، محمد حبيدة، إلى تلك الأبعاد المتعدّدة التي يحملها طبق الأكل؛ إذ يَعتبر أنَّ “ما يأكله الناس في الأيام العادية والمناسبات الكُبرى وفي أوقات الشدّة يكشف بأشكال متعدّدة، مباشِرة تارةً، وملتوية تارةً أُخرى، عن نسِق مِن القيَم والعادات والتقاليد، يُفسّر التمايزات الاجتماعية بين الجنسَين وبين الجماعات، والتمايزات الجغرافية بين المناطق وبين المدن والقرى”.

وتَظهر هذه التمايزات، بحسب حبيدة، في المطبخ وطُرُق تحضير المآكل، مثلما تظهر في المائدة وآدابها وتراتُبيّاتها التي تعكس بُنية المجتمع وثقافته وعقلياته؛ فما كان يأكله المغاربة “قبل البنيات الحديثة التي أدخلها الاستعمار، في الأوقات العادية وفي أوقات القحط، يشهد على الكفاف، على التقشُّف، وعلى عادات غذائية مرتبطة بالبيئة وخاضعة للتمايُز الاجتماعي”.

مِن جهتها، تُؤكّد الباحثة في أنثروبولوجيا الطعام، نعيمة المدني، أنَّ “العادات الغذائية الجماعية في المغرب ترتبط بالتراث الغذائي الذي يُعدُّ مِن روافد الهوية المغربية التي تكشف عن متانة البنى الاجتماعية، مُضيفةً، في حديث إلى “رحبة”: “رغم كونه شأناً فردياً، فإنَّ الغذاء بالنسبة إلى المجتمع المغربي يندرج في إطار اندماج الفرد في الجماعة وتعميق أواصر التضامُن بين الأفراد”.

وتخلص صاحبة كتاب “تحوُّل العادات الغذائية بالمغرب القروي: دراسة أنثروبولوجية” إلى أنّ “العادات الغذائية الجماعية يجري اكتسابها من خلال التربية الفردية على الذوق الجماعي، لأنَّ هذه العملية تُمثّل شكلاً مِن أشكال الاندماج الاجتماعي”، مُوضّحةً أنّ رصد العادات الغذائية يُمكِّن من “معرفة آليات اشتغال التنظيم الاجتماعي ومجموع العلاقات الاجتماعية التي تُنسَج حول مائدة الطعام”.

باتت العلامات التجارية الفاخرة نوعاً مِن “الطوطم” الذي يُحدّد المرتبة الاجتماعية

وخلال محاولتنا لفهم السلوك الغذائي في المغرب، سنلاحظ أنّه “يستند في كثير من جوانبه إلى دورةٍ زمنية طبيعية مرتبطة بتعاقُب الفصول، وأُخرى فلاحية متّصلة بالندرة أو الوفرة”، وفق كتاب “قرابة الملح: الهندسة الاجتماعية للطعام” (2016) للباحث المغربي عبد الرحيم العطري، والذي يَعتبر أنَّ هذا الترتيب يأتي ضمن استراتيجيات اجتماعية غذائية، هي الأُخرى “متعلِّقة بالأوضاع السياسية والاقتصادية والطبيعية العامّة التي يعرفها المجتمع”.

في مثل هذه الأوضاع، خصوصاً في أوقات المسغبة، يلجأ المغربي إلى ما يُسمّيه الباحث الاجتماعيُّ “آليات التفاوض والتكييف مع الواقع”، وذلك عن طريق مواجهة هذا الواقع بنوع من الترميق  (bricolage)، أو الدخول في مسلكيات غذائية جديدة.

هنا، يضرب العطري مثالاً بـ”الرفيسة العمياء” أو “ميكاز”، وهي أُكلةٌ يجري إعدادها مِن بقايا الخبر اليابس، باعتبارها تندرج في إطار الترميق الغذائي لموجهة الفقر والجوع، مثلما ترتبط بتقديس الطعام. لنُلاحظ، هنا، أنَّ المغاربة يُطلِقون اسم “النعمة” على الأكل.

غير أنَّ العطري يلفت إلى أنَّ الترميق الغذائي لا يفرضه الجوع والندرة فقط، بل كثيراً ما يرتبط بالوفرة والكفاف، فيكون في هذه الحالة طريقةً لابتكار أنواعٍ جديدة من المأكولات وإطالة مدّة صلاحية أنواعٍ محدّدةٍ منها، عن طريق التصبير والتجفيف والخزن والتعفين. مِن أمثلة ذلك “الخْليع”؛ وهي أُكلة تقليدية تُحضَّر عبر تمليح اللحم وتجفيفه بأشعّة الشمس لعدّة أيام، وخلطه مع مكوّنات غذائية أُخرى والاحتفاظ به في قارورات لأكثر مِن شهر، لكي يكون صالحاً للاستهلاك بعد ذلك.

كانت هذه إحدى طُرُق استدامة استهلاك اللحم، خصوصاً بعد عيد الأضحى، بالنظر إلى عدم توفُّر الثلّاجات المنزلية، ولأنَّ هذه المادّة الغذائية لم تكن في متناول شريحة واسعة في المجتمع المغربي في سنوات ماضية.

إلى وقت قريب، كان اللحم طعاماً نبيلاً، احتفالياً بالدرجة الأولى، لا يأكله الناس إلّا في المناسبات الكبرى، الدينية والعائلية… نقرأ هذه العبارة في كتاب “المغرب النباتي” الذي يُشير مؤلّفه إلى “المكانة الخاصّة” التي كان اللحمُ يحظى بها عند العائلات المغربية؛ فهو بالإضافة إلى ذلك كان “مؤشّراً قوياً على التمايُز الاجتماعي بين سائر الناس الذين عاشوا في التقشُّف من جهة، والأعيان الذين نعموا بأنواع اللحوم وأجودها مِن جهة أُخرى”.

كتاب المغرب النباتي - محمد حبيدة

وفي هذا السياق، يلفت عبد الرحيم العطري إلى أنَّ “ما يُثير في بعض الأطعمة والأشربة هو بدايتها التي كانت حكراً على الأغنياء، لتصير بعد ذلك اختصاصاً غذائياً للفقراء؛ فالشايُّ مثلاً لما ظهر في المجتمع المغربي، كان مشروباً خالصّاً بالأعيان والكبراء والأملياء والأشباع، لكنه في تطوُّره سيغدو مرتبطاً بالفقراء من خلال لازمة خبز وأتاي”.

و”معركة” التّمايز هذه بين الأغنياء والفقراء لا تنتهي بالمرّة، لأنه، وفي كل حينٍ “يتوجّب على من يحوز الرصيد الأعلى من الرساميل أن يُعلن تفوّقه على الآخر الذي يقلّ عنه حيازةً وتجذُّراً في سوق التنافسات والصراعات المراتبية. وعليه، عندما تصير أطعمة أو أشربة أكثر شعبيةً، يبحث الأغنياء عن مسارات أُخرى للتمايز وتدشين الاختلاف”، يضيف مُؤلّف كتاب “قرابة الملح”.

قد يدخُل في هذا الجانب ما تشهده العادات الغذائية المغربية مِن تغييرات اليوم، ربما أبرزُها وأشدُّها وقعاً، كما يذكر العطري، استحالةُ العلامات التجارية الفاخرة إلى نوع من “الطوطم” الذي يكشف الانتماء ويُحدّد المرتبة الاجتماعية، بالإضافة إلى الانتقال من طعامٍ كثيف الدلالة والرمزية، ومسنود بالثقل القدسي والاجتماعي، إلى طعام “خفيف” يفتقد في كثيرٍ من تعبيراته إلى العمق والانتماء.

صحافي مغربي مِن مواليد 1980، حاصل على ليسانس في الفلسفة من “جامعة محمد الخامس” في الرباط ودبلوم في الصحافة والإعلام. يكتبُ في عددٍ من الصحف والمواقع العربية، ويعمل حالياً نائب رئيس تحرير في راديو 2M المغربي.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة