ما الذي خسرته الجزائر وما الذي كسبته في قضية بوعلام صنصال؟
كان بوعلام صنصال أشبه بقنفذ وضعته السُّلطة في جيبها واضطرّت لتحمّل لسعاته سنةً كاملة. أمّا اليوم، وقد «تخلّصت» منه، فالمؤكَّد أنّ القنفذ سيواصل إطلاق أشواكه دون هوادة.
أصبح بوعلام صنصال خارج القضبان أخيراً. فما الذي خسرته الجزائر، على الصعيدَين الخارجي والداخلي، مِن سَجنه، ومِن الطريقة التي جرى بها إطلاق سراحه؟
لنعُد إلى اليوم الأوّل؛ حين أُوقف الكاتبُ الجزائري (الحاصل على الجنسية الفرنسية العام الماضي) فور وصوله إلى «مطار هوّاري بومدين الدولي» قادماً من فرنسا في 16 نوفمبر 2024. لم يُعرف الخبرُ من خلال بيان رسمي يُوضّح أسباب التوقيف وحيثياته، بل من خلال الإعلام الفرنسي الذي نَقل، في اليوم السادس، عن «مقرّبين» من صنصال «انقطاع الاتصال» معه بعد وصوله إلى الجزائر.
غيابُ الإعلان الرسمي عن التوقيف أتاح للجانب الفرنسي ومنظّمات حقوقية دولية الفرصة لطرح سؤال: أين بوعلام صنصال؟ والحديث عن «اختفاء قسري»، وليس عن توقيف. وبينما كانت التصريحات المُعبّرة عن «القلق» و«التضامن» تتلاحق في الأوساط السياسية والثقافية بفرنسا، بدا لافتاً استمرار صمت الجانب الجزائري حتّى مساء الجمعة 22 نوفمبر؛ حين جرى تأكيد الاعتقال.
غير أنّ الإعلان لم يأت عبر بيان للقضاء يسرد، بشكل صريح ومباشر، أسباب اعتقال صنصال والتهم الموجَّهة إليه، بل من خلال مقال لوكالة الأنباء الجزائرية بعنوان «صنصال دمية التيار التحريفي المعادي للجزائر» (غير متوفّر على موقع الوكالة حالياً)، أكّد، للمرّة الأُولى، اعتقال الكاتب الجزائري الفرنسي، وربَطَه بـ«محاولته إنكار وجود الأمّة الجزائرية»، في إشارة إلى ما صرّح به من أراجيف لمجلّة «فرونتيير» اليمينية المتطرّفة. شنّ المقال هجوماً حادّاً ومزدوَجاً على كلٍّ مِن الكاتب الذي وصفه بـ«المثقّف المزعوم المبجَّل من قِبل اليمين المتطرّف الفرنسي» وعلى «فرنسا الماكرونية الصهيونية».
كشَفَ تأكيد التوقيف من خلال وكالة الأنباء عن توجُّه السُّلطة إلى عدم الاكتفاء بالمسار القضائي، وجعْل الموضوع قضيّةً سياسية بالدرجة الأُولى، وهو ما ستلتقطه الأوساط السياسية والإعلامية المحلّية، فتهرع سريعاً إلى المشاركة في حفلة صاخبة لا بُدّ منها.
بدا أنّ ذلك يضربُ عصفورَين بحجر واحد؛ خارجياً: التأكيد على أنّ السيادة الوطنية ليست محلّ تشكيك أو مفاوضة، وداخلي: حشد التفاف شعبي حول السُّلطة. غير أنّ هذه مقاربة القضية سيشوبها كثيرٌ من الشعبوية. لم يكن الأمر يختلف في الجانب الفرنسي. وقد عبّر مقالٌ لصحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، في فيفري 2025، عن ذلك، بالقول إنّ حكومتَي البلدين «تقعان تحت وصاية الشعبويّين الذين لديهم كلُّ شيء ليخسروه من تهدئة العلاقات».
يُشبه ذلك مقاربة السُّلطة لقضية كمال داود، الكاتب الجزائري الحاصل على الجنسية الفرنسية هو الآخر، والتي سبقت قضيةَ صنصال بأيام قليلة؛ حيث لم يجرِ الاكتفاء بالمسارَين الطبيعيَّين فيهما؛ القضائي: توجُّه السيّدة التي اتّهمت الكاتب باستغلال قصّتها الشخصية في روايته الحائزة «جائزة غونكور» إلى القضاء، والنقدي: مناقشة حدود اقتباس الكتّاب من القصص الحقيقية (وهو أمرٌ دارج في الأدب).
لاحَظ مقالُ وكالة الأنباء أنّ توقيف بوعلام صنصال جعل «الأسماء المعادية للجزائر والمؤيّدة للصهيونية في باريس تهبّ هبّة رجل واحد»، مُعتبِراً ردود الفعل الفرنسية «ضجّةً كوميدية» تُقدّم دليلاً إضافياً على وجود تيار في فرنسا «حاقد على الجزائر» و«لوبي لا يفوّت أيّ فرصة للتشكيك في السيادة الجزائرية»، وأيضاً «مسرحيةً شرّيرة» يُمثّل صنصال «دمية مناسبة» فيها.
خلال التوتّر غير المسبوق في العلاقات الجزائرية الفرنسية منذ سحْب الجزائر سفيرها في باريس ردّاً على الاعتراف الفرنسي بمخطّط المغرب للحُكم الذاتي في الصحراء الغربية المحتلّة في جويلية 2024، حرص الخطاب الرسمي في الجزائر على أن يقتصر النقاش، قدر الإمكان، حول وزير الداخلية الفرنسي السابق برونو روتايو واليمين المتطرّف.
وعلى هذا المنوال سارت مقاربة قضية بوعلام صنصال في كثير من الأحيان. لكن، ولئن كانت «الأسماء المعادية للجزائر والمؤيّدة للصهيونية»، وجلُّها من رموز اليمين المتطرّف الفرنسي، أو الدائرين في فلكه، قد تصدّرت المشهد منذ اليوم الأوّل (مارين لوبان، وإريك زمّور، وخافيير دريانكور، وفاليري بيكراس، وجاك لانغ، ونيكولا ديبون إينيان، إضافةً إلى محمّد سيفاوي، وكمال داود، والطاهر بن جلّون الذي دعا إلى «تحرير» صنصال!)، فإنّ أسماء عديدة مِن فرنسا وخارجها بعيدة كلّ البُعد عن اليمين المتطرّف ومقولاته انتقدت سَجن الكاتب ودعت إلى إطلاق سراحه.
الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا (الذي سيستقبله الرئيس عبد المجيد تبّون في ماي 2025) أحدُ تلك الأسماء؛ فقد قال إنّه «منزعج» من اعتقال صنصال، وأضاف أنّ «المثقّف مكانه حول طاولة مستديرة في جلسة لمناقشة الأفكار وليس السجن».
وبعد يومين من تأكيد اعتقال بوعلام صنصال، وقّعت مجموعةٌ من الكتّاب البارزين، وعددٌ منهم حاصلٌ على «جائزة نوبل للأدب»، من بينها الفرنسيان آنّي إرنو وجان ماري غوستاف لو كليزيو، والتركي أورهان باموق، والنيجيري وول سوينكا، والبريطاني من أصل هندي سلمان رشدي، والإيطالي روبرتو سافيانو، مقالاً في مجلّة «لوبوان» الفرنسية في نوفمبر 2024 (بمبادرة من كمال داود)، دعوا فيه إلى «الإفراج الفوري» عن صنصال، مُعتبرين أنّ «المسألة متعلّقة بالحرّية وبالحقّ في الثقافة وبحياتنا، ككتّاب مستهدفين بهذا الترهيب».
مثل هذه الكلمات تُضرّ بصورة الجزائر أكثر ممّا يمكن لليمين المتطرّف الفرنسي أن يفعله، ذلك أنّها تأتي مِن أسماء تحمل قيمةً اعتبارية عالية على المستوى العالمي، وبعضُها أبعدُ عن اتّهامه بالنفاق والازدواجية؛ مثل سوينكا المعروف بدفاعه عن الحرّيات وحقوق الإنسان (ألغت الولايات المتّحدة تأشيرته نهاية أكتوبر الماضي بسبب انتقاداته المتكرّرة لترامب)، أو إرنو ولو كليزيو اللذين كانا ضمن 300 كاتب فرنسي دعوا، في مقال نشرته «ليبراسيون» في جويلية الماضي، إلى فرض عقوبات على الاحتلال الإسرائيلي، ووصفوا حربه على قطاع غزّة بالإبادة الجماعية.
إلى جانب ذلك، أتاح سَجن بوعلام صنصال فرصةً للحديث عن الوضع الحقوقي في الجزائر؛ سياسياً، نتذكَّر لائحة البرلمان الأوروبي التي دعت في جانفي الماضي إلى «الإفراج الفوري وغير المشروط» عن صنصال و«كلّ المعتقلين السياسيّين»، وإعلامياً، يمكن الإشارة، على سبيل المثال، إلى مقال نشره موقع «ميديا بارت» الفرنسي، في مارس الماضي، حول وجود «أكثر من 200 معتقل رأي طي النسيان» في الجزائر.
أمّا بالنسبة إلى صنصال نفسه، فقد منحه السَّجن «مجداً» لا يستحّقه وما كان ليحلم به؛ من خلال تحويله إلى «رمز نضالي ضدّ الدكتاتورية». وبناءً على ذلك، سيسارع الغرب إلى إغداقه بالجوائز والتكريمات. من ذلك حصوله على «جائزة تشينو ديل دوكا» الفرنسية الإيطالية في ماي الماضي، و«جائزة حرّية التعبير» في معرض الكتاب ببراغ في الشهر نفسه، وانتخابه عضواً في «الأكاديمية الملكية البلجيكية للغة والأدب الفرنسيين» في أكتوبر الماضي، فضلاً عمّا صدر، خلال سنة، من كُتب جماعية وفردية حول «تجربته». أكثرُ من ذلك، أعطى السجن وزناً لهرطقاته التي كانت لتمرّ من دون أن ينتبه إليها أحد.
كان بوعلام صنصال أشبه بقنفذ وضعته السُّلطة في جيبها واضطرّت لتحمّل لسعاته سنةً كاملة. أمّا اليوم، وقد «تخلّصت» منه، فالمؤكَّد أنّ القنفذ سيواصل إطلاق أشواكه دون هوادة، عبر الإعلام الفرنسي والغربي الذي سيصبح ضيفاً قارّاً عليه. الفرق هذه المرّة أنّ مستمعيه وقرّاءه سيكونون أكثر بكثير وتأثيره سيكون أكبر.
أتى إطلاق سراح صنصال، المدان بتهمة المساس بالوحدة الوطنية، بعد أيام قليلة من تصريح رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي، نيكولا ليرنر، بوجود «إشارات» من الجزائر إلى كونها «تودّ معاودة الحوار» مع باريس. ولعلّ أفضل وصفٍ للطريقة التي جرى بها إطلاق سراحه ما كتبته صحيفة «لوموند» الفرنسية، التي وصفتها بـ«السيناريو المثالي للخروج من الأزمة»، والمتمثّل في وساطة ألمانية «حفظت ماء وجه باريس والجزائر» معاً.
في الداخل، من الواضح أنّ هذه الخطوة أحدثت صدمةً لدى أنصار السُّلطة أنفسهم، رغم محاولات أحزاب سياسية و«محلّلين» تصويرها كـ«انتصار». في بلدٍ ديمقراطي، يكفي إجراء سبر آراء لمعرفة حجم الخسائر التي تكبّدتها السُّلطة وسْط أنصارها. ولأنّنا لسنا في بلد ديمقراطي، يكفي التذكير بمعتقلي الرأي من المواطنين الجزائريّين الذين لا يطالب أيّ بلدٍ بإطلاق سراحهم، وبحجم المظالم التي حدثت وتحدث في الجزائر منذ ستّ سنوات.
كاتب وصحافي جزائري ومؤسّس موقع “رحبة”. من مواليد 1983. بدأ الكتابة الصحافية مدوّناً في 2005، قبل أن يعمل في عددٍ من المؤسّسات الصحافية الجزائرية والعربية، بين الصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون. صدرت له مجموعة قصصية في 2008، ورواية في 2013.